الجمعة , 17 مايو 2024

صرخات الجسد في قصص “عذراء الليل”

= 9893

في قصص نهلة جمال الدين نصل الى قمة الإثارة حيث الصراع الداخلي للأنثى المقهورة في المجتمع الشرقي بما يحمل من تناقضات نفسية ومعنوية.

بقلم: السيد الزرقاني

ما بين الخيال والحقيقة أخذتنا المجموعة القصصية “عذراء الليل” للكاتبة د. نهلة جمال الصادرة عن دار النخبة للطبع والنشر في 80 صفحة، حيث نجحت الكاتبة بما تملك من مفردات لغوية متميزة في اختيار تلك المنصات القصصية القصيرة والومضات للتعبير عما يدور في النفس البشرية عامة والمرأة خاصة في مختلف الأعمار حيث نجحت في إبراز الحالة السيكولوجية لكل حالة على حدة بعيدا عن حالات التكرار، ونقلت لنا نبض أنثوي رشيق يلهو في المواقف الحياتية اليومية ليقدم مواقف مكثفة تمتزج فيها رقة المشاعر بالوصف التفصيلي لأبعادها، لتعبر عن كل فتاة، امرأة،، في سبع وعشرين قصة قصيرة جدا وسبع عشرة ومضة، تقفز بنا السطور من حلم لآخر، تحيك أثواب الأيام الحزينة والفرحة لناس ظَلموا أو ظُلموا.

بطلة قصة “بداية طريق” منى التي عاقبتها الأيام لفقرها وجمالها عبرت عن حالها “أبواق لاهثة تشق الآذان، بينما تقف ساكنة على ناصية الطريق، لا تقوى قروشها الصغيرة على الفوز بلذة تناول مشروب صباحي ساخن بالمحل المواجه، وفتات أمنياتها قابعة في قاع حقيبتها، منذ غادر وتركها عروس العام الأول، تاركا ميراثا من الهموم والشقاء والعزوف عن الفرح، في مجتمع حجب عنها فرص البقاء”.

وفي قصتها “تسلل” تأخذنا الكاتبة في براعة الى تلك العلاقات الحتمية بين النساء والليل فكثيرا ما تكون هناك محاورات ومحاكاة ذاتية علنية أحيانا أو سرية في أغلب الأحيان بين تلك المرأة والليل حيث كانت تخطط ليومها الجديد عبر حلم الليل البهيج حيث قالت في ص 6 “أغلقت ستائرها المجدولة بخيوط بنفسجية باهتة لتستلقي على فراشها المقابل في زاوية الغرفة للشباك حيث يتسلل الضوء ولا يسكن المكان.

أغمضت جفنيها ورفعت إشارة البدء ليومها الجديد حيث تخطط، وتؤلف سيناريو كل الأحداث وتبدل الأدوار وفقا لما تحب .

هو يومها نحياه بلا أوجاع، بلا أوامر، بلا ضوابط سوى أخلاقها هي، ولا تسمح لأبطاله إلا بما يسرها، ستجعل من كلماته لها همسات وثناء، ومن غرفتها كوخا صغيرا على شاطئ النهر، ترتدي فيه ألوان البهجة وتتحرر خصلاتها السمراء من قيد النظام، ستلمس أناملها بهدوء أواني الطهي غير مترددة أو متوترة خشية لوم اصطياد الأخطاء، تجري بين جنبات المكان بدلال، ويراقبها بنظرات حانية وهو يقرأ جريدته.”

تلك أحلام الأنثى حين تهيم في الليل الا ان أشعة النهار الجديد حين تتسلل اليها من جديد تقتل تلك الأحلام والأمنيات السرية التي طالما حلمت بها وعاشت في كنفها. وتظل في حالة تمرد فعلي على تلك السنن الكونية حتى يتهيأ الليل من جديد.

وفي قصة “حياة بلا حكايات” تأخذنا الكاتبة الى عالم آخر من السرد الصامت لحكايات العشق بين أبناء الحي الواحد والمجتمع الواحد حتى وان كان هذا الصمت هو الحوار الداخلي بين البطل والبطلة الا أنهما بهذا الصمت البليغ يرسمان لوحة عشق أبدية بين دفتي كتاب كانت تقرأ فيه وهو ينظر اليها عبر شرفة أحلامه المطلة على حديقة حياتها ويسأل البطل دون إرادة منه في ص9 “لماذا اخترق هذا الشعور قلبه وتعالت أمواج الرغبة في احتواء أحزانها؟”

وهنا يظل البطل رهن حالة الانتظار لحين عودة حبيبته التي عاش أسير تلك الحالة النفسية التي ترجمها بالحزن الداخلي لمجرد النظر في عينها ، ويظل أسير تلك المشاعر حتى غابت وهو رهن الانتظار فلم يقدم على اقتحام الصمت الكائن في ذاته ويصارحها بشيء ما يسكن الوجدان حتى صدم بالغياب الأبدي دون أن يمنح نفسه فرصة التحدث اليها وكانت النهاية تحت لافتة “شقة للإيجار” كتبت على شقتها وضاع الحلم والحب معا في لحظة، وكانت الصرخة الداخلية أقوى من أي كلام يقال عندما نفتقد القدرة على استغلال الفرص في الوقت المناسب.

وفي قصة “عذراء الليل” التي اتخذتها الكاتبة عنوانا لتلك المجموعة تأخذنا الكاتبة في براعة وعبقرية من خلال تلك اللوحات الإبداعية واللغوية الرائعة وتماسك في الحوار وبراعة في سرد الحدث صعودا وهبوطا في الصراع الداخلي لتلك الانثى التي تخرج يوميا للبحث عن العمل الذي يمثل لها الحياة ولكنها لا تمل من البحث مرات عديدة في هذا المجتمع الصاخب الكاسر للأحلام الا انها حين تعود الى فراشها في تلك الحارة تنسج لنفسها حلم العذراء في الحب والزواج والعشق ولا تنقطع تلك الأمنيات الا مع فجر يوم جديد أو صوت هذا المنبه حيث تقول في ص 33:

“فتحت نافذة الغرفة الخشبية تستقبل أشعة متسللة من شمس النهار المختفية خلف جدران العمارات الشاهقة التي ألقت بظل حزين على بيوت الحارة وقلصت مساحة الرؤية للشارع الرئيسي … توشحت بعباءتها حالكة اللون حيث تغيب صفرة أزرارها خلف طرحتها المنقوشة بتشابك لوني غامض مثل صمتها وهدوء أنفاسها..”

ونصل الى قمة الإثارة في الصراع الداخلي للأنثى المقهورة في المجتمع الشرقي بما يحمل من تناقضات نفسية ومعنوية ربما تحطم كيان الانثى الحالمة خاصة في علاقتها مع الزوج الذي يحاول الحصول منها على ما يرغبه هو فقط وليس ما يرغبان سويا فنجد الكاتبة قد امتلكت زمام الكلمة والحرف وتوغلت في تلك اللحظة دون إسفاف في اللفظ لتوصيل تلك الصرخة الصامتة في نفس الانثي، حيث نجحت في إبراز سيكولوجية المرأة في تلك اللحظة الفارقة، واستخدمت تلك المفردات البليغة المعبرة عن تلك الصرخات مع كل لمسة عبث من جانب الرجل في جسدها حيث تقول في ص55:

“وراحت يده تعبث بجسدها الملقى على فراشها تحاول إيقاظ الرغبة التي غفلت في سبات عميق منذ ولادة ابنها الثاني: حتى تصل الى “تمرح أنامله بثنيات الجسد دون مقاومة منها … تغلق أبواب المشهد بالصمت والأنين المتقطع … تغرق هي في حالة اللاوعي … لكن المؤكد أنها لا تملك حق الرفض المسلوب بقوة العادات البالية والخوف الكئيب من فقدان الظل”.

وفي النهاية علينا ان نؤكد أن الكاتبة تمتلك من المفردات اللغوية والتعبيرات الدقيقة ما يجعلها تمتلك زمام الكتابة في هذا اللون من ألوان القصص القصيرة جدا والومضات القصصية حيث البناء الفني والدرامي متماسك ولم يخل منها في أي من قصص المجموعة التي بين أيدينا، فهي قطعت شوطا كبير في إبراز شخصيتها الأدبية المتميزة في كتابة هذا اللون من الأدب متفردة فيه عن أقرانها الأديبات.

———–

* ميدل ايست أونلاين.

شاهد أيضاً

قصر الدوبارة… وعلاقته بالشئون السياسية في مصر

عدد المشاهدات = 5079 بقلم الكاتبة/ هبة محمد الأفندي المنشأ: يعود قصر الدوبارة للأميرة أمينة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.