زاوية في مقهى "ستاربكس" تستضيفني أسبوعيا لكتابة سطوري التي أفرغ فيها ما أحمله من مشاعر أو أفكار، فطيلة أيام الأسبوع أظل أبحث وأخزن ما ينتابني من مشاعر لكتابة مقالي، فلست من هؤلاء الذين يركضون وراء الحدث لمجرد التواجد، فيصبح ما أكتبه مجرد "علك" واستهلاك لما هو على الساحة من موضوعات.
حاولت تعلم هذا من كثير ممن وضعتهم قدوة لي منذ حددت هدفي للدخول للوسط الإعلامي وتحديدا من باب الصحافة الذي عشقته بعد مقال قرأته للكاتب يسري الفخراني قبل أسبوع واحد من سؤال راهبتي لي ما الذي يدور في ذهني لتحديد مستقبلي، فكان الفخراني سببا في النطق مباشرة "أدبي سير"، وجاءت مباركتها واعلامات الاستفهام والتعجب المرسومة على وجهها واضحه جدا لقدرتي الفورية على تحديد هدفي، فقد كنت تلك التلميذة الهادئة التي لا تتحرك من مكانها إلا بالأمر من مدرساتها أو من أهلها، لا أختلط ولا أشاغب ولا أتحدث فلا يمكن لأحد أن يتوقع تصرفاتي، فكان الجميع يتفاجأ من مستوى تحصيلي العلمي الذي كان يقتله دائما تلك المواد العلمية المليئة بالأرقام التي أكرهها حتى الآن.
خلقت لنفسي دائما هوية مختلفة عما أراه وعمن هم حولي، فوجدت نفسي أهوى الفن والسينما وأتابع وأحرص على مشاهدة كل الأعمال الجديدة، بل أنني حتى أحفظ تاريخ إنتاجها وأقرأ عن المشكلات التي تصاحب إنتاجها، وعن المشوار الفني لأبطال الأفلام والأعمال التي أشاهدها، حتى أصبح رأسي بمثابة الأرشيف الفني الذي يحفظ هذا التاريخ، وأغضب وأثور إن قيل أمامي أي معلومة مغلوطة عن أي من هذا، بل أنني أدافع بعض الأحيان عن الفنانين كما لو كانوا من الاهل والأصدقاء المقربين.
وتحول هذا الأرشيف الفني بمجرد تحديد هدفي في ممارسة هوايتي في الكتابة بالعمل في الصحافة إلى مجموعة من الأهداف، فرتبت أسماء من أحببتهم من الفنانين سواء لأعمالهم الفنية التي تعلقت بها أو لإعجابي بشخصيتهم بحسب الأولوية، ومنذ اللحظة الأولى للعام الأول في الجامعة شعرت بأنني أسير على درب تحقيق أحلامي، لكني لم أكن أتخيل قط بأن يصبح أحد أهم أحلامي قدوة أخرى لي في حياتي، أفقد السيطرة على دموعي لحظة التفكير به، واسترجاعي للحظة لقائي به.
أحمد زكي..
حاولت كثيرا الابتعاد عن كتابة هذه المشاعر التي تأسرني تجاه هذا الأب الروحي الذي اتخذته منذ لقائي له، والذي أشكر الناقد الصحفي وأحد أساتذتي الذين لا أنسى فضلهم فيما وصلت إليه اليوم من قدرة على صياغة أفكاري "عبد الستار ناجي" على تلك الفرصة التي منحني إياها في مقابلة هذه القامة الفنية الكبيرة، وكان هذا في السابع من أغسطس عام 2001 وكنت في إجازتي الصيفية السنوية من الجامعة التي أعود فيها لبلدي الثاني الذي نشأت فيه الكويت، وكنت حريصة طوال عطلتي الممتدة لثلاث أشهر أن أتلقى تدريبي في الصحافة في جريدة الأنباء الكويتية، وهي أحد الصروح الصحافية المحترمة في الكويت، وفي هذا العام كان فيلم (أيام السادات) بدأ عرضه في شاشات السينما، وتقرر أن يقوم العملاق أحمد زكي بالمجيء للكويت للتسويق للفيلم وحضور العرض الخاص به، والذي أقيم في سينما حديقة الشعب، وكان حضوري لهذا الحدث مكافأة من أستاذي على اجتهادي وحبي للعمل ونهمي في الحصول على المزيد من أسرار الصحافة والكتابة الصحافية، فكانت المكافأة سبيلا لبداية كشف أسرار النقد الفني للأعمال، فكان النقاش حول ما أعجبني وما شاهدته في الفيلم هو محور عملي في صباح اليوم التالي.
جلست أشاهد وأتابع الفيلم بنهم كبير وسعادة لا أتمكن من وصفها في كل مرة أتذكر فيها هذا الحدث، وكنت كلما شاهدت أحمد زكي على الشاشة ارتفع من الكرسي الذي أجلس عليه في محاولة مني لمشاهدته في أول القاعة، وأتأكد من أنني بالفعل أجلس معه في نفس المكان، وانتابني خليط من المشاعر التي تجمع بين يقيني الكامل بأن من يجسد هذه الشخصية التي أراها على الشاشة هو الفنان أحمد زكي، وبين شعوري للحظات كثيرة وخاصة في الجزء الثاني من الفيلم بأن الرئيس الراحل أنور السادات هو من يقف أمامي، وأشاهد فيلم ربما يكون مسجلا بإحدى كاميرات الفيديو الخاصة به وبأسرته، فروحه ونبرة صورته كانت تملأ قاعة العرض.
انتهى الفيلم وعلا التصفيق الحار لأحمد زكي لإتقانه الشخصية بهذا الشكل، وبدأ الجميع يخرج من القاعة وكان حلم المعجبة بأحد الفنانين يلاحقني في ذهني برغبتي في لقائه حتى وإن كان هذا من بعيد، فمجرد مشاهدته وجها لوجه كانت تكفيني للحديث عنها أيام طويلة أمام الأهل والأصدقاء، لكن آخر الأحلام كان لقائي المباشر به ومصافحته…نعم مصافحته.
تمكنت بذاك الخبث الصحفي الذي يتملكني من اختراق صفوف الكتاب والنقاد والفنانين الحاضرين لأصل لمواجهته، فوجد أمامه كتلة صغيرة الحجم تمد يدها طامعة في مصافحته، التفت لها ومد يده بسرعة يصافحها ويربت على كتفها ويدور حديث صغير بروح وشخصية السادات تتسيد اللحظة..
أحمد زكي: أهلا وسهلا
أهلا بحضرتك…خلود أبوالمجد صحافية في الأنباء
كلمات بسيطة ولكنها أثرت في تفكيري وفي شخصيتي، ولكن ما كان له الأثر الأكبر هي تلك المصافحة التي لا أنساها ابدا، بل أنني ظللت لفترة تقارب الأسبوعين رافضة مصافحة أيا من كان حتى أظل أشعر بجمال ذاك السلام، الذي جعلني أشعر على الرغم من وجود والدي آن ذاك قبل أن يتوفاه الله من عام، أنني أصافح والدي، والذي دعمه ذاك التربيت على كتفي، الذي حمسني وأنا في بداياتي على مزيد من الاجتهاد حتى لا أخيب نظرة والدي لي.
استمر هذا الإحساس بأبوة أحمد زكي ينمو بداخلي يوما بعد يوم، وفي كل نجاح أحققه أتذكره حتى وصلني خبر مرضه الشديد الذي صاحب تجسيده لشخصية العندليب، الذي ما أن سمعت بأنه سيجسدها ظللت أخشى سماعه لقناعتي التامة بأن هذا الفنان لا يمثل فقط وإنما يتعايش، بل أن روحه تسكن روح الشخصية التي يقدمها مثلما قدم الرئيس جمال عبد الناصر، ومثلما شعرت حين شاهدت أيام السادات، فهو يمثل حتى بخلاياه، وطوال فترة مرضه كنت أتابع أخباره وأسأل عنه أساتذتي ممن يهاتفوه للاطمئنان على صحته، كما لو كنت أطمئن على صحة والدي، حتى جاء خبر الوفاة الذي كنت أخشاه، فانهمرت دموعي في مقر عملي والجميع يتساءل لماذا هذا كله، فهو مجرد خبر لوفاة فنان؟!
ما لم يكن يستوعبه أحد أنني اخترت أبوة هذا الفنان لي، فانهمرت دموعي حزنا لوفاة الوالد الذي شكل القدوة والمثل الأعلى الذي أسير حتى الآن طامحة بأن أكون تلك الإبنة التي يفخر بها حتى بعد غيابه عن دنيانا بالجسد وليس بالروح.
هذا ما ينقص كثيرين من نشء هذا الجيل الذي يفتقد القدوة التي تجعله قادرا على تحديد أهدافه ورسم خطوات مستقبله.