الخميس , 11 ديسمبر 2025
القاصة ليلى عبدالواحد المراني

“حكايات والدي”… للقاصة العراقية ليلى عبدالواحد المرّاني..وقراءة نقدية لصابر الجنزوري

= 11240

قصة حكايات والدي:

حين يدير والدي وجهه إلى الحائط ويتظاهر بالنوم؛ أدرك أن شيئاً يضايقه… فدأبه منذ أحيل على التقاعد، وهو يلازم الكنبة التي خصّصها لنفسه تحت نافذة واسعة في الصالة مقابل جهاز التلفاز، تطلّ على شجرته الأثيرة التي زرعها بيديه في الحديقة، يطقطق بسبحته ذات ( الحبّات ) الكبيرة، صامتًا، شارد الفكر… وحين يعتدل في جلسته، ويضع نظارته الطبيّة التي تعطي لعينيه سعةً وسطوةً، وتلتفّ حول رقبته بقيطانٍ أسود، نفهم أنه يريد أن يتكلّم، أن يحكي قصصًا مثيرة عن مغامراته وشقاوته حين كان شاباً… ورغم إننا سمعنا هذه الحكايات عشرات المرّات؛ إلاّ إننا نصغي إليه باهتمام وتلذّذ، رغم محاولة أخوتي الصغار الهرب إلى المطبخ مع أمّي التي تلملم نفسها بحركةٍ سريعة،
—سأحضّر لكم الشاي.
هكذا تقول أمي وهي تغطّي فمها بطرف ( فوطتها )!
تخرج الكلمات من فم والدي متلاحقة، وبنفس الاسترسال والتتابع الذي اعتدنا عليه في كلّ مرة… يرفع نظارته من عينيه حين ينتهي، ويدير وجههه إلى الحائط، ويغطّ في نومٍ عميق… نتسلّل بحذر إلى المطبخ، نتضاحك بأصوات خافتة، ونأخذ نعدّ المرّات التي سمعنا بها هذه الحكايات… عشرة مرات، يصيح أخي الصغير… لا، عشرون مرة… ثلاثون، وتبدأ الأرقام بالتصاعد، فتهمس أمي، ” إحذروا، سيسمعكم… له أذن تسمع دبيب النملة! “
والدي الذي عهدناه صلبًا، قويّا، صوته يحمل عمقًا نرتعش خوفاً حين نسمعه يؤنّب أو يعاقب أحدنا، أصبح الآن هشّا، متداعيًا بعد أن سرقت السنون حيويته وسطوته، وبعد أن أقعده المرض والروماتيزم الذّي عشش في مفاصله عن الخروج من البيت، وأشدَها قسوةً عليه، إحالته على التقاعد قبل الأوان، وفراق أصحابه وأصدقائه.
تستمرّ أيامنا على هذه الوتيرة، حتى كان ذلك اليوم الذي أتمنى أن أحذفه من التقويم!
جاء ابن أخي لزيارتنا في يوم شتوّي بارد، مجتمعون كنّا حول المدفأة النفطية، نتابع أحد الأفلام الكارتونية، أبي معنا يتابع باستمتاع.
بارق، ابن أخي، مراهق شقيّ، منفلت اللسان، نحبَه كثيرًا رغم شطحاته، تبرَر أمّي أفعاله التي تصل حدّ مضايقة الآخرين، ” هو لا يزال صغيرًا، لا يفقه ما يقول أو يفعل ” هكذا تقول أمي، فيزداد غضبنا عليه!
اعتدل والدي بجلسته،ابتسم بحبّ لحفيده الذي هتف بصوتٍ ضاحك، ” هلو جدّو “
وضع والدي نظارته على عينيه، ونظر إليه طويلًا باعتزاز، ” سأقصّ عليكم هذه الحكاية، ولك أنت بالذات يا بارق، كي تتعلّم وتصبح مثل جدّك قويّا ويهابه الجميع. “
وضعتُ يدي على قلبي خشية من ردّة فعل بارق حين يسمع قصص بطولات جدّه!
تنحنح والدي بقوّة وكأنه يسلّك حباله الصوتية، ابتلع ريقه… و….
—كنت خارجًا من بيتنا في المحلّة القديمة، كان عمري حوالي ثمانية عشر عامًا، وإذا بشلَة من الشقاوات، حوالي خمسة عشر واحدًا، يعترضون طريقي
هنا، حاول أخي الصغير أن يذكَره،” ولكنهم كانوا عشرة يا أبي. “
خزره والدي حانقًا؛ فصمت.
— وماذا حصل يا جدّي؟
صاح بارق منفعلاً…
— هجموا عليّ جميعهم، ولكنني انقلبت عليهم مثل ( الطنطل )١
وضحك بارق ومعه أخي الصغير..
— أوقعتهم أرضًا، الواحد تلو الآخر، والدماء تنزف من أنوفهم.
فجأةً، قفز بارق من مكانه صارخًا وهو يضحك، ” معقولة جدّو؟ يعني أنت مثل ( گراندايزر )٢
ذُهلت، لم أعرف ماذا أقول لهذا الشقي وأنا أرى نظرة انكسار في عين أبي، سقطت نظارته على صدره، استدار نحو الحائط… وانقطعت الحكايات التي كان يرويها.
———————————-
١- الطنطل : شخصية خرافية مرعبة تحكي لنا عنها جدّاتنا
٢- گرانديزر : شخصية كارتونية ذو قوة هائلة، يحبه الأطفال كثيرا

=========================================

القراءة النقدية: النوستالجيا في نص “حكايات والدي” للأستاذة ليلى المراني

بقلم صابر الجنزوري

حكايات والدي: نص له من الجمال نصيبا كبيرا ، ومن الروعة نصيبا أكبر ، تتألق فيه سيدة السرد في القصة القصيرة الأستاذة ليلى المراني ، وهذا حقها عندما نطلق عليها ونعطيها لقبا مثل هذا ، فهي تستحق وأكثر ، فمن قرأ لها على مدار السنوات العشر الأخيرة خاصة ، يعرف قدر ومكانة الأستاذة ليلى المراني الأدبية وتميزها في مجال القصة القصيرة ، في هذا النص ، حكايات والدي ، تكتب وتتألق ، وتروي وكأنها تقمصت دور الإبنة الكبرى للوالد الذي تحكي عنه وتجعله بطلا لنصها ، فتستحضر نوستالجيا الماضي ، وتربط الحاضر بماضي الوالد وحكاياته وبطولاته التي يحكيها مرارا وتكرارا ويستمع اليه الأبناء والأم التي تهابه وتحث الأبناء على مهابته واحترامه رغم ما وصل اليه من ضعف ، تلقى الأستاذة ليلى بمفرداتها اللغوية ولغتها السهلة وعذوبة كلماتها ، فتلتقط مشكلة التقاعد التى يركن الإنسان إليها ويستسلم للحياة وييدير وجهه للحائط وكأنه يستسلم للحياة، فيستسلم للذكريات والحكايات ، مفردات عبرت عنها في رمزية بلاغية لتعبر عن صورة ومشهدية رائعة ، التلفاز ، نافذة تطل على الشجرة العتيقة ، الكنبة ، المسبحة ذات الحبات الكبيرة ، كوب الشاي ، ثم تأخذنا فجأة لروعة النص عندما تربط الماضي والحاضر بجيل المستقبل المتمثل في الحفيد “بارق” ، ولنا أن نلاحظ اختيارها ، ودلالة الاسم ” بارق” .
ذلك الرمز ، لجيل جديد تتوسم فيه أن يكون امتدادا لجده ، فيحكي له الجد عن بطولة من بطولاته ، فنجد الحفيد الذي يرمز لامتداد جيل البطل
” الوالد ” فيشبهه بالشخصية الكرتونية “الكراندايزر” في مقابلة وتضاد مع شخصية المارد والشبح القديم “الطنطل” الذي كان يرمز لشخصية البطل والمارد الشبح لجيل الوالد…
فينتهي النص “نهاية مفتوحة” ذكية تتركها الأستاذة ليلى لذكاء المتلقي الذي يتمنى لو كان هناك المزيد من الأحداث ليستمتع بعذوبة وروعة السرد والحبكة التى اضافت إليها الأستاذة ليلى جمالية التكثيف والاختزال وبلاغة اللغة وأضفت على قصتها جماليات القصة القصيرة ، وطبقت عناصر وخصائص القصة القصيرة ببراعة وعذوبة وجمال…تحياتي وتقديري سيدة القصة للقصيرة استاذة ليلى.

شاهد أيضاً

بحضور ‏‏السفير بسام راضي… الأكاديمية المصرية للفنون بروما تحتفى بيوم اللغة العربية

عدد المشاهدات = 9514   ‏دعم الهوية والثقافة العربية من داخل الأكاديمية المصرية بروما تنفيذاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.