الخميس , 25 أبريل 2024

العملات الرقمية المشفرة.. بين الفرص والمخاطر

= 2527

بقلم: د. داليا إبراهيم

في ظل التطورات التكنولوجية المتسارعة والتحول نحو الاقتصاد الرقمي، تشهد صناعة الخدمات المالية والمنتجات المرتبطة بها تطورًا هائلًا، فمع ظهور الإنترنت، حدث تطور في الحركة المالية العالمية، صاحبه انتشار التجارة الإلكترونية، وتطور وسائل الدفع والتحويل الإلكتروني، وخلق نماذج أعمال جديدة، وقد أصبح الآن ممكنًا إجراء أي معاملة مالية أو تجارية عبر الإنترنت بسرعة وسهولة، وباستخدام وسائل دفع إلكترونية حديثة.

وفي عام 2008، ظهرت تقنية سلسلة الكتل (البلوك تشين)، والتي يعتبرها البعض أهم اختراع بعد “الإنترنت”، وقد انتشرت معها عملة “البيتكوين” -كأولى وأشهر العملات الافتراضية المشفرة- كتطبيق لهذه التقنية، وأحدثت جدلًا كبيرا في الأوساط المالية والاقتصادية لدراسة الفرص والمخاطر التي قد تنطوي عليها هذه العملات، فبالرغم من زيادة انتشارها وقبولها عالميا، فإنه يمكن استخدامها في المعاملات غير القانونية مثل جرائم غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، كما أنها قد تؤثر على الاستقرار المالي والنظام المالي العالمي؛ نظرًا للتذبذب الشديد في أسعارها واستخدامها للمضاربة وعدم خضوعها لأي سلطة مركزية، والخوف من أن تكون فقاعة مالية جديدة تؤدي بالعالم إلى أزمة مالية جديدة.
وفي ظل هذا الاهتمام المتزايد بالعملات الرقمية المشفرة، أصبح من الضروري إلقاء الضوء عليها والتعرف على ما يحيط بها من فرص ومخاطر.
ما العملات الرقمية المشفرة؟

تعتبر العملة الرقمية المظلةَ الرسمية التي تضم جميع أشكال العملات الأخرى، سواء الإلكترونية أو الافتراضية أو الرقمية القانونية أو المشفرة، وبغض النظر عن الأسماء الأخرى التي يمكن إطلاقها عليها يبقى الطابع الرئيس لتلك العملات أنها متاحة بشكل رقمي وليس لها وجود مادي ملموس، بالرغم من أن لها بعض الخصائص المماثلة للعملات القانونية المادية.
وتعرف العملات الرقمية بأنها وحدة التبادل التجاري التي لا توجد إلا بالهيئة الإلكترونية، وهي عملات مشفرة غير مركزية تعمل بنظام نظير إلى نظير (Peer-to-Peer)، تتم إدارتها بالكامل من قبل مستخدميها بدون أي سلطة مركزية أو أي وسطاء، وذلك عبر الوسائط الإلكترونية المتعددة لشراء سلع عينية أو منافع مختلفة.

تختلف العملات الرقمية عن وسائل الدفع العادية والمتعارف عليها، مثل بطاقات الائتمان، في عدم وجود وسيط تحويل المعاملات مثل المؤسسات البنكية، وعدم وجود سلطة عليا تختص بمراقبة المعاملات المالية ممثلة في البنوك المركزية، وكذلك اعتماد العملات الرقمية على شبكات التفاعل المباشر P-2-P دون الحاجة إلى وجود طرف ثالث يقوم بمراقبة المعاملات المالية الصادرة والواردة.

ويمكن تقسيم العملات الرقمية إلى ثلاثة أشكال رئيسة، وهي: العملات الافتراضية، والعملات الإلكترونية، والعملات الرقمية القانونية التي تصدرها البنوك المركزية أو مؤسسات النقد، كما هو موضح في الشكل التالي.
وفقًا للبنك المركزى الأوروبي، يمكن تعريف العملة الافتراضية بأنها “تمثيل رقمي للقيمة، لا يصدرها بنك مركزي أو مؤسسة ائتمانية أو مؤسسة أموال إلكترونية، والتي، في بعض الظروف، يمكن استخدامها كبديل للنقود”، وتعد العملات الافتراضية نوعًا من العملات الرقمية، يتم التحكم فيها عادةً من قبل منشئيها، ويتم استخدامها وقبولها بين أعضاء مجتمع افتراضي محدد.

وتعمل العديد من العملات المشفرة كنظم لا مركزية قائمة على قاعدة بيانات لا تحتاج إلى طرف ثالث موثوق به مثل البنك المركزي أو شركة بطاقات الائتمان، وفي هذه الحالة يتم تسهيل عمليات النقل من نظير إلى نظير من خلال استخدام مفاتيح خاصة وعامة، وتعتبر العملات المشفرة مثل “البيتكوين” و “الإيثريم” من العملات الافتراضية.

يعرف قانون 194 لسنة 2020 الخاص بإصدار قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي، النقودَ الإلكترونية بأنها “قيمة نقدية مقومة بالجنيه المصري أو بإحدى العملات الصادرة من سلطات إصدار النقد الرسمية مستحقة على المرخص له بإصدارها، وتكون مخزنة إلكترونيًّا ومقبولة كوسيلة دفع”، كما يعرف القانون نفسه العملات المشفرة بأنها: “عملات مخزنة إلكترونيًّا غير مقومة بأي من العملات الصادرة عن سلطات إصدار النقد الرسمية، ويتم تداولها عبر شبكة الإنترنت”.

سوق العملات المشفرة

تم طرح فكرة “البيتكوين” للمرة الأولى كورقة بحثية في عام 2008 -كأحد تطبيقات سلسلة الكتل (البلوك تشين)- من قِبل شخص أو مجموعة تعرف باسمSatoshi Nakamoto ووصفها بأنها نظام نقدي إلكتروني يعتمد في التعاملات المالية على مبدأ “نظير إلى نظير”، دون وجود وسيط، ويقوم نظام الأصول المشفرة على استخدام تقنية التشفير لتوليد ونقل الأموال وتخزين وحدات القيمة مثل البيتكوين عبر استخدام تقنية البلوك تشين لجعل المعاملات آمنة، وتصدر الأصول المشفرة عن الأشخاص، وبالتالي فهي غير صادرة أو مضمونة من قبل البنوك المركزية الدولية.

ويمكن الحصول على الأصول المشفرة من خلال عملية تسمى “التعدين” “Mining”، يتم بمقتضاها استخدام أجهزة كمبيوتر فائقة القوة تستهلك طاقة هائلة لحل مسائل حسابية معقدة، يتمكن من ينجح في حلها من استخراج أو “تعدين “وحدات البتكوين، وتعتبر عملية تعدين الأصول المشفرة كثيفة استهلاك الطاقة، حيث تتطلب استهلاك كميات من الطاقة تماثل بعض الدول.

وعلى الرغم من أن عملة “البيتكوين” هي الأكثر شعبية، فإنها ليست العملة المشفرة الوحيدة؛ فهناك العديد من العملات الأخرى، فقد ارتفع عددالأصول المشفرة من 1300 بنهاية عام 2018 ليصل إلى 5500 عملة في يوليو 2021.
ويصل إجمالى القيمة السوقية للعملات المشفرة المتداولة حول العالم إلى حوالي 1 تريليون و400 مليار دولار أمريكي، حيث قفز قفزة هائلة في الربع الأخير من 2020 والربع الأول من 2021، كما هو موضح في الشكل، وتستأثر حاليا البيتكوين على حوالي 45% من القيمة السوقية للأصول المشفرة المتداولة عالميا، برأس مال سوقي يبلغ 600 مليار دولار أمريكي.

شهدت عملة البيتكوين تقلبات سعرية شديدة، فقد ارتفع سعرها من 30 سنتًا في عام 2011 إلى 3630 دولارًا في سبتمبر 2017، وقفز قفزة كبيرة في ديسمبر 2017 وصولًا إلى سعر 19000 دولار، ثم هوى إلى سعر 5830 دولارًا في مارس 2020، وفي الربع الأول من هذا العام، صعد سعر البيتكوين بشكل جنوني إلى سعر 63500 دولار في أبريل 2021، ثم انهار إلى سعر 34773 دولارًا في يونيو 2021.

وتضاعف سعر البيتكوين الواحد بالدولار الأمريكي أربع مرات في عام 2020، حيث ارتفع بنسبة تزيد على 160٪ في الربع الرابع وحده، وقد أثار هذا الارتفاع اهتمامًا واسعًا بعملة البيتكوين والعملات المشفرة بشكل عام، كما بدأت العديد من المنصات قبول المدفوعات بعملة البيتكوين والعملات المشفرة الأخرى.

فرص وتحديات العملات المشفرة

تعتمد العملات المشفرة على تقنية السجلات الموزعة “البلوك تشين”، والتي تتميز باللامركزية وإمكانية تنفيذ المعاملات بصورة شبة فورية، ودون الحاجة لوجود وسيط أو جهة تنظيمية، في إطار من الشفافية والموثوقية وإمكانية تتبع المعاملات والتحقق منها، تلك الخصائص تحمل في طياتها بعض الفرص كما تحمل أيضًا بعض المخاطر والتهديدات.

فرص ومزايا العملات الرقمية المشفرة

يؤدي استخدام العملات المشفرة إلى كفاءة المدفوعات العالمية وتخفيض سرعة وتكلفة المعاملات، حيث تلغي العملات المشفرة الحاجة إلى وجود وسطاء ماليين، وتتميز العملات الافتراضية بأنها ذات طابع دولي لا تقيدها حدود جغرافية ولا زمانية، ويمكن نقلها في أي وقت من وإلى أي مكان في العالم وبخصوصية تامة دون المرور على أي هيئة رقابية، ودون تحمل فروق معدلات الصرف للعملات المختلفة.
كما تتميز العملات المشفرة بالحماية من فقدان القيمة أو التضخم، نظرًا لإنتاجها بكمية محدودة وتحديد سقف سوقي لها يزيد مع ارتفاع الطلب عليها، ويحميها من التضخم على المدى الطويل، وتتميز أيضا بإمكانية استبدالها بالعملات الاعتيادية كقيمة صرف مقابلة.

تتميز العملات المشفرة باللامركزية، وعدم خضوعها لأي سلطة مركزية، كما تتم إدارة وصيانة هذه العملات بشكل ذاتي ومستدام.
وتوفر أيضًا العملات المشفرة الأمان والخصوصية، حيث يتم تسجيل المعاملات باستخدام خوارزميات تشفير مختلفة يصعب فكها أو تحليلها أو اختراقها، وتستخدم أسماء مستعارة أو أرقام حسابات غير مرتبطة بأي مستخدم أو حساب أو بيانات مخزنة يمكن ربطها بملف تعريف، بما يحقق مبدأ الخصوصية، وتوفر العملات الرقمية على الجانب الآخر الشفافية وعلانية المعاملات، حيث تكون عمليات البيع والشراء كلها معلنة ومعروفة لجميع المستخدمين بدون معرفة هوية المتعاملين لكن مع معرفة تامة بحجم المعاملات وتوقيت عقدها.

توفير حماية البيانات الشخصية، حيث لا تتطلب معاملات الدفع بواسطة العملات المشفرة توفير بيانات شخصية أو بيانات حساسة؛ مما يؤدي إلى إزالة احتمالية سرقة بيانات الهوية.
تسمح العملات المشفرة بتتبع التدفقات النقدية بشكل أفضل، حيث يمكن للمستخدمين تسجيل وعرض وتتبع عملاتهم عبر جميع حساباتهم، كما تجعل النظام قابلًا للتدقيق والتحقق.

مخاطر وتحديات العملات الرقمية المشفرة

بالرغم من العديد من الفرص والمزايا التي توفرها العملات المشفرة مقارنة بوسائل الدفع التقليدية، فإنها تحمل في طياتها العديد من المخاطر التي لا يستهان بها، والتي أشار بعض الخبراء إلى أنها قد تؤدي إلى أزمة مالية جديدة. ويمكن تلخيص أبرز المخاطر في الآتي:
الافتقارإلى السلطة المركزية وعدم وضوح البيئة التنظيمية التي تنظم هذه المعاملات؛ مما يؤدي إلى تقلب الأسعار والتلاعب وعدم وجود أي كيان يضمن هذه الأصول، وعدم وجود سلطة مركزية للتحكيم في حالة النزاعات أو في حالة السرقة أو الفقدان.

يمكن أن تؤثر العملات المشفرة على قدرة البنوك المركزية على مراقبة المعروض النقدي، وبالتالي على تنفيذ السياسة النقدية وعلى الاستقرار المالي.
يمكن استخدامها في تمويل العمليات غير المشروعة وعمليات غسيل الأموال، فالعمليات التي تجري بواسطة العملات الافتراضية سرية ومباشرة ولا تتطلب بروتوكولات خاصة للكشف عن هوية المستخدمين أو التحقق من شرعية معاملاتهم أو الاحتفاظ بسجلات عن عملياتهم الجارية.

ارتفاع تكلفة إصدار العديد من العملات المشفرة والآثار السلبية للتعدين على البيئة، نظرًا لحجم الطاقة الضخمة اللازمة لتشغيل أجهزة الكمبيوتر المستخدمة في حل المعادلات المشفرة.
وتواجه المتعامِل في العملات المشفرة مشكلة صعوبة الخروج من السوق، حيث لا تسمح العديد من المنصات إلا بعمليات سحب بعملات محددة.

ونظرًا لعمليات التشفير المعقدة التي لا يمكن اختراقها وتتميز بالأمن والخصوصية، فإن فقدان البيانات قد يعني خسائر مالية ضخمة، وفي حالة فقدان أي مستخدم للمفتاح الخاص لحسابه، فلا يمكن استعادته.
على الرغم من أمان وخصوصية العملات الرقمية فإن بورصات تداولها ليست آمنة بشكل تام، وستظل القرصنة تهديدًا دائمًا إذا لم يتم تخزين وحفظ الأصول المشفرة بشكل صحيح.

القواعد التنظيمية للعملات المشفرة

تباينت ردود أفعال الدول المختلفة إزاء انتشار العملات المشفرة، ما بين اعتبارها أداة مالية جديدة، وبين حظر العملات المشفرة أو طرح العملات الأولى (ICO)، كما اتجهت بعض البنوك المركزية حول العالم لإطلاق عملات رقمية وطنية “العملات الرقمية التابعة للبنوك المركزية CBDC”، بهدف مواجهة العملات المشفرة المتواجدة على الساحة الدولية، كما رأت بعض الدول عدم الحاجة لوجود قواعد تنظيمية، يوضح الشكل التالي الوضع التنظيمي للأصول المشفرة على مستوى العالم.

وفي جمهورية مصر العربية، يقتصر التعامل داخل الدولة على العملات الرسمية المعتمدة لدى البنك المركزي المصري فقط، ويُحظر إصدار العُملات المشفرة أو الاتجار فيها أو الترويج لها أو إنشاء أو تشغيل منصات لتداولها أو تنفيذ الأنشطة المتعلقة بها، وفقًا للمادة (206) من قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي الصادر بالقانون رقم 194 لسنة 2020.

وقد حذر البنك المركزي من التعامل في جميع أنواع العملات الافتراضية المشفرة، وفي مقدمتها عملة البيتكوين، لما ينطوي عليه التعامل في تلك العملات من مخاطر مرتفعة، حيث يغلب عليها عدم الاستقرار والتذبذب الشديد في قيمة أسعارها، وذلك نتيجة للمضاربات العالمية (غير المراقبة) التي تتم عليها؛ مما يجعل الاستثمار بها محفوفًا بالمخاطر، وينذر باحتمالية الخسارة المفاجئة لكامل قيمتها؛ وذلك نتيجة عدم إصدارها من أي بنك مركزي، أو أي سلطة إصدار مركزية رسمية يمكن الرجوع إليها، فضلًا عن كونها عملات ليست لها أصول مادية ملموسة، ولا تخضع لإشراف أي جهة رقابية على مستوى العالم، وبالتالي تفتقر إلى الضمان والدعم الحكومي الرسمي الذي تتمتع به العملات الرسمية الصادرة عن البنوك المركزية.

كما حذرت الهيئة العامة للرقابة المالية المصرية المستثمرين من مخاطر الاشتراك في عمليات الاكتتاب الأولي في العملات ICO، والتي تهدف لجمع أموال من المواطنين، ومن مخاطر دعوات الانسياق وراء العملات الافتراضية المشفرة ما يرتبط بها من معاملات غير خاضعة لرقابة أي جهة داخل مصر، وتشكل تحايلًا على المنظومة النقدية الرسمية وما يرتبط بها من قوانين وتشريعات.

ومع الانتشار الواسع لاستخدام العملات المشفرة والفرص والمزايا التي تقدمها، فإنه ليس من الحكمة رفضها، بل يجب الاعتراف بمخاطرها المختلفة ومحاولة التغلب عليها، والتي تحتاج إلى التعاون الدولي من أجل تطوير الأطر التنظيمية لها، وذلك ما تقوم به بعض المنظمات مثل مجلس الاستقرار المالي، وفرقة العمل المعنية بغسل الأموال (FATF)، وصندوق النقد الدولي ومجموعة دول العشرين، وكذلك “محاربة الحريق بالنار”، والاستفادة من إمكانات تكنولوجيا البلوك تشين التي يمكن استخدامها في تنظيم هذه العملات وتسخير التكنولوجيا للصالح العام، كما أشارت كريستين لاجارد المدير العام لصندوق النقد الدولى سابقًا.

————–

* مدرس المحاسبة بمركز السياسات الاقتصادية الكلية – معهد التخطيط القومي

شاهد أيضاً

مسدس - جريمة

بعد حكم إعدام المتهمين…قرار جديد من محكمة النقض في قضية مقتل الإعلامية شيماء جمال

عدد المشاهدات = 2339 قررت محكمة النقض، اليوم الإثنين، حجز طعن المتهمين أيمن حجاج، وحسين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.