أستيقظُ صباحَ كل ثلاثاء وأنا أفكِّر فيما سأكتب بمقالي الأسبوعي.. أكادُ أجد صعوبةً في اختيار المواضيع، خاصة مع الطرح الأسبوعي تضيق الخيارات، ولكن في نهاية المطاف لا بُد من فكرة تلوح بالأفق، ولكني في هذه المرة سأقدِّم كلمات شكر وتقدير وثناء لكل من عَبَر حياتي منذ البدايات الأولى وحتى هذه اللحظة، لكل شخص عَبَرها ولم يرحل، مُخلِّفًا الكثير من المواقف واللحظات التي كانت بمثابة دروس تعلَّمتها على هذه الأرض الطيبة، بدءًا من قريتي البسيطة القابعة بين جبال الحجر، وفي منزل صغير ضيِّق المساحات، كان يتسع يوما بيوم بنا وبوالديْ اللذين ما برحا يُقدمان لنا كل معاني الحب والتقدير.
كرَّس والدي حياته لأن يُعلمنا القيم والمبادئ، وأعطانا الثقة المطلقة والتامة بأننا في أي بقعة من بقاع العالم لن ننسى شيئا من هذه الدورس، كنا نجتمع بعد الغداء لنسمع الحديث نفسه، ونحن مُتذمِّرين وكأننا في محاضرة يومية، لكن سرعان ما اكتشفنا أنَّ كل ما قال ويردِّده قد ترعرع معنا، وبتنا نعيشه واقعًا ونمارسه كسلوك وأسلوب حياة.
كان والدي -أمدَّ الله في عمره- يقول: “اتركوا الآخرين، وتجاوزوا عن زلاتهم، لا تلتفتوا لمن يُؤذيكم ولا ترفعوا صوتكم على من هو أكبر منكم، ولا تنقلوا أحاديث سمعتموها”. كان يحثنا في كثير من المواقف على “التعلم دائما، وأن تتجاوزوا عن من ظلمكم وأساء إليكم؛ لأن كل شخص سيجبر أن يكون مكانكم يوما ما، ترتيبات القدر أفضل بكثير من ترتيبات البشر، وكل شخص أساء إليكم يوما سيعيش نفس اللحظة، لا تتعلموا أن تردوا الإساءة بالإساءة، دعوا كل شيء للخالق، تعلموا الصمت في أشد اللحظات التي تستطيعون الرد فيها، تعلموا أن الحياة ستعيد ترتيب الأشياء بنفسها وتعيد توزيع الأدوار، حتى وإن اتُّهِمتم بالضعف والجبن لا تتنازلوا عن الصمت، لأنَّ الرد لضعيف، أمَّا الشخص المتوازن والواثق من نفسه، فيترفع عن الرد دائما حتى في أحلك الظروف وأقساها، حينها ستعلمون أهميَّة ذلك عندما تُذكَرون في المجالس بصفاتكم الحسنة وتربيتكم المهذبة”.
هناك أيضا في تلك القرية، وعلى بُعد خمس دقائق من منزلنا، كان يعيش جدي -رحمة الله عليه- ذلك الأب الكبير الذي قدَّم كل ما بوسعه لنا ولغيرنا من أبناء القرية، كان بمثابة الفلج المستدام، وعندما أقول فلجًا فإنني أشير إلى رمز من رموز “الاستدامة”، لا إسرافَ بل انضباط، والتركيز على المصلحة العامة. جدي الذي أفتقده كنت أجلس معه عصرية كل يوم على “حصيرة” بسيطة لأتقاسم معه فنجان قهوة، مُردِّدًا على مسامعي واجبَ الشكر على النعم؛ فكان يقول: “أنتم تنعمون بتعليم وبحياة كريمة، جئتم إلى هذه الدنيا ولم تتعثَّروا بالبحث عن أنفسكم، هناك من يُنير لكم الدرب دائما، أما نحن فكنا نعيش رحلة البحث الدائم نحو المجهول، بحث عن لقمة العيش، بحث عن العلم، بحث عن البقاء، لنصنع لكم هذه الحياة التي تنعمون بها الآن”.
كان يقول لي أيضا: “اذهبي إلى حيث تذهبين، كوني بعيدة، اختاري طريقك، لن نقف عائقا أمام طموحاتك وتطلعاتك، ولكن الحذر يا بنتي، الحذر من كل شيء، ولا تكبري يوما على هذا المكان لأنكِ مهما كبرتِ وتقدمتِ ستظلين ابنة القرية البسيطة وأهلها البسطاء الكرام”.
إننا مدينون للكثير من الأشخاص في حياتنا، مدينون لأولئك الأشخاص البسطاء والمتعلمين، الفقراء والأغنياء، الصغار والكبار، المرضى والأصحاء، مدينون لكل من مر على عثراتنا وكان بمثابة درس، فشكرا لجدي وجدتي، اللذين علما والدي كيف يُربينا، لنخرج لهذه الحياة ونحن متمسكين بالكثير من المبادئ والقيم والصفات الحميدة، وشكرا لكل معلم مر علي طوال سنوات دراستي لتلك اللحظة التي أخطأت فيها مرة بحق أحد زملائي، ووبختنِي مُعلمتي، ولتلك اللحظة التي رفعت بها صوتي لشخص يكبُرني فوبَّخني أبي، وشكرا لأمي التي لولاها لما كنت قدوة إخوتي.
عندما نكون مدينين للأشخاص، فإننا لا نمتلك سوى بضع كلمات ممزوجة بالحب والامتنان لنقدمها لهم، تعبيرًا عن كل ما قدموه لنا، وكل ما تعلمناه على أيديهم، فلا يسعني بعد هذا كله إلا أن أفخر بنفسي وبما أنا عليه الآن، بدءًا مما تعلمته من مدرستي الأولى قريتي، ومنزلي وأبناء الحي وانتهاء بهذه اللحظة التي أكتب فيها هذه الكلمات من هذه المؤسسة التي صَنعتني، وأخذت بيدي نحو العلا، فإنني ولله الحمد أشكر الله على ما وهبني إياه من تمسك بتلك الأشياء البسيطة ذات يوم، لأرى نفسي الآن بما أنا عليه.
علينا أن نتعامل وفق قيمنا ومبادئنا، دون أن نتعثر ونتخبط أمام تقلبات الحياة، خاصة وأنَّ هناك من ضل الطريق في المنتصف، وعندما أضاع الوجهة لم يستطع العودة خوفا من أيِّ نقد أو توبيخ قد يناله بسبب ازدواجيته في الحياة، وعلينا أن ندرك أن هناك من يتمنَّى أن يكون مكانك مُحافظًا على كل ما تعلمه ومتمسكًا بصفاته النبيلة ومتعايشًا مع ما تتطلبه الحياة دون أي اختلال في التوازن، وتأكد دائما أن هناك من ينظر إليك كل يوم على أنك أعجوبة.
- كاتبة عمانية.