مستشفى الصحة النفسية، حيث أعمل هنا ، وقدّر لي أن أتحدث مع زميل لي حديث السن وحديث التخرج ولكنه عميق الفكر وكثير الاستنارة حول الوجود، والأخلاق، والسلطة، وعلم النفس العكسي، وصولًا إلى فلسفة الإدراك، التي تطرح تساؤلًا محوريًا:
هل الوعي مصدر شقاء أم نعمة؟
وبدأ زميلي الشاب فى الحديث والحقيقه إنه حين تحدث أجبرني أن أسمعه بقلبي وعقلي وذهن أجبره على الانتباه لحديثه وبدأ كلامه فقال : إنه لطالما استغرقت في تأملات عميقه حول ما يحدث حولي ومع مرور الوقت، توصلت إلى حقيقة مرعبة أكدتها فلسفات أرسطو وسقراط ونيتشه ودوستويفسكي وجان جاك روسو، وهي أن نزلاء هذه المستشفى ليسوا بالضرورة مجانين، بل ربما كانوا أكثر عقلانية من أولئك الذين يعيشون في الخارج، وسط عالم يزداد جنونه يومًا بعد يوم.
هذا العالم الذي نعيشه اليوم يمتلئ بالتناقضات والجنون المقنّع بالمثالية، فهو يبكي بحرقة على كلب مكتئب في الغرب، لكنه لا يرف له جفن أمام إبادة جماعية لملايين البشر في مناطق أخرى من العالم. عالم يدّعي الحرية، لكنه يقف عاجزًا عندما تتعارض هذه الحرية مع مصالحه الكبرى.
عالم انشغل بصناعة هوس المثالية في كل شيء، فجعل الجمال محصورًا في أوزان ومعايير قاسية تدفع الشباب إلى عمليات جراحية خطيرة لمجرد مطابقة صورة نمطية. صار الفرد يقارن نفسه بلا توقف بالآخرين عبر منصات التواصل الاجتماعي، مما أوقعه في دوامة من الاحتراق النفسي وعدم الرضا ، المفارقة تكمن في أن هذا العالم المجنون، الذي يعظ بالمُثل العليا، هو ذاته الذي يفضل أرباح مصانعه المدمرة للبيئة على مستقبل كوكب بأكمله.
إنه عالم يروج للمثالية العمياء حتى انقلبت الموازين، فأصبح الخطأ مبررًا باسم الفلسفة، والصواب موضع شك وتشكيك. عالم مليء بالعنصرية، يصنف البشر وفق ألوانهم وطبقاتهم ورتبهم، ويجعل من النجاح حلمًا بعيد المنال لكثيرين، في حين يُمنح للبعض دون عناء فقط لأنهم ولدوا في بيئة معينة.
في هذا الواقع، يبدو أن المستشفى النفسي أصبح ملاذًا آمنًا، ليس فقط للمضطربين، بل لمن لم يتمكنوا من تحمل هذا الجنون العالمي. فالسؤال الذي يطرح نفسه: من هو الشقي حقًا؟ أهو من ازداد إدراكه ووعيه فتعذب، لكنه استمر في العيش بالخارج؟ أم من استسلم، وقرر أن يحتمي داخل هذه الجدران، معتقدًا أن الخلل يكمن في رأسه، لا في العالم من حوله؟
وكما قال دوستويفسكي: أقسم لكم بأغلظ الإيمان، أن شدة الإدراك مرض وأكد كافكا: إذا كان هناك ما هو أشد خطورة من الإفراط في المخدرات، فمن دون شك هو الإفراط في الوعي ، فالإدراك سلاح ذو حدين، إما أن يسجن صاحبه في معاناة لا تنتهي، أو يمنحه بصيرة تجعله يقاوم، وإن كان بثمنٍ باهظ.
لكن، هل من مفر من هذا التناقض؟ هل هناك ملاذ يحمي الإنسان من الإدراك المؤلم؟
هنا نجد أن الحل يكمن في الدين والمبادئ الفطرية السليمة، التي تنشر الحب والسلام دون تمييز أو إفساد. فكما قال الكاتب محمود أبو زيد على لسان أحمد زكي في فيلم (البيضة والحجر) إذا فسدت البيئة، فلابد للإنسان أن يحتمي بعقله لينجو من الفساد، ولكن، ماذا لو كان العقل ذاته هو سبب الانتكاسة والجنون؟ هنا يكون الدين هو الملجأ الوحيد، لأنه يمنح الإنسان إدراكًا متزنًا، قائمًا على فطرة سليمة تحميه من الانهيار.
فالدين، الذي خلق الله به النفس وأدرك دوافعها، هو القادر على تهذيب الإدراك، بحيث لا يكون سببًا في شقاء الإنسان، بل وسيلة لفهم العالم والتفاعل معه دون أن يفقد المرء نفسه في جنونه. وكما قال الله تعالى في سورة ( ق)( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) فالدين هو النور وسط الظلام، والأمل وسط اليأس، والنجاة وسط هذا الطوفان من العبث والضياع.
إنتهي كلام زميلي صغير السن كبير العقل، فلا تقاس العقول بالأعمار فكم من صغير عقله بارع وكم من كبير عقله فارغ ، وأقول ل عمر نعم لقد صدقت فى هذه الحاله الفصاميه التي أصابت العالم الا من رحم الله ، وكلامك جعلني استدعي الحزن الدفين داخلي لنفس السبب فلقد أدركت تلك الحقيقه منذ سنوات ، ولكنك اليوم بحديثك هذا أيضاً أشعرتني بكثير من الامل فطالما هناك شباب مثلك يدرك حقيقه الامر إدراكًا متزنًا، قائمًا على فطرة سليمة تحميه من الانهيار فهذا يعني أن الخير مازال موجوداً ، وأن الصلابة النفسية التي تظهر قدرة الانسان على تحمل مختلف هذه الضغوط مع إحتفاظه بالاتزان الداخلي والخارجي مازال هناك من يتحلي بها ويمتلكها ، وتلك نعمة من الله عزوجل ، ولذلك أخر ما اريد أنه أقوله لك لا تحزن يا صديقي عمر إن الله معنا ولكن لابد أن نكون نحن أيضاً مع الله.
حفظ الله عالمنا من الجنون المقنّع بالمثالية .. حفظ الله مصر ..أرضاً وشعباً وجيشاً وأزهراً
—————————————————————–
*المقال مستوحى من حديث الشاب عمر محمد سعيد
* كاتب صحفي … جريدة حياتي اليوم