هم أولئك الذين نسج الزمن على أكتافهم وشاحاً من الغربة، رغم أنهم في قلب ديارهم وبين وجوهٍ ألفوها. كانوا يومًا شمساً ساطعة تشرق في فضاء الصغار، ينيرون دروبهم بحكمة كالنبع المتدفق، ويروون ظمأ الطفولة بعطاء لا ينضب. أما اليوم، فقد صاروا كأشجار عجوز ألقت بها الأقدار في ركن مهمل من الحديقة، تتشابك أغصانها في صمت، تئن بحزن الوحدة، بينما العيون تمر عليها كغريب عابر، لا يلتفت أحد إلى أوراقها التي تذبل من الانتظار.
كانوا يتأملون من بعيد، يرون أبناءهم يعلون البنيان، يزرعون الأحلام، ويخطون الطريق بثقة، بينما هم يقفون كالحجارة في قاع النهر، ثابتين لكن منسيين، تلمسهم المياه دون أن تحركهم. يظنون أن دورهم انتهى، أن أصواتهم لم تعد مسموعة، وأن وجودهم أصبح محض عادة قديمة، كصور معلقة على الجدران لا يلتفت إليها أحد.
هؤلاء الذين ظنوا أن دورهم انتهى حين أضاءت شموع الأبناء طريقاً ظنوا أنه لن ينطفئ، لكنهم لم يدركوا أن تلك الشموع لم تُشعل إلا بدموعٍ منهم أُهملت في الزوايا. هم من كانوا الجسر الذي مرَّ عبره الجميع، وحين وطئت الأقدام الأرض الصلبة، نُسي الجسر في خلوته الطويلة.
إنهم الأرواح التي تشبه نوافذ البيوت القديمة؛ تُفتح فقط عندما يحتاجون للهواء النقي، ثم تُغلق دون التفاتة. أصبحوا كالعناوين المهملة في رسائل الحياة، تُقرأ لمرة، ثم تُطوى الصفحات دون رجعة. هم الكتف الذي يحمل أثقالاً لا تُرى، والمظلَّة التي تُفتح في المطر وتُطوى حين تُشرق الشمس.
لمطالعة المزيد من مقالات ضحى الباسوسي..اضغط على الرابط التالي:
https://www.hayatty2day.com/?s=%D8%B6%D8%AD%D9%89+%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%A7%D8%B3%D9%88%D8%B3%D9%8A
لعلّ الوحدة ليست غربة المكان، لكنها غربة الروح وسط ضجيج الأقربين. كانوا يرون في كل خطوة نجاحٍ لأبنائهم انعكاساً لعرق سكبوه في الليالي الطويلة، لكنهم لم يدركوا أن خطواتهم ستصبح يوماً صدى لا يسمعه أحد. أصبحوا مثل ظلال شاحبة على الحائط، ترافق الجميع لكن لا أحد ينتبه لوجودها، ف كم تجرعوا من الوحدة وهم وسط ضجيج العالم، وكم كتموا الغصة في قلوبهم وهم يراقبون أبناءهم يمرون بهم مرور العابرين، لا يتوقفون إلا لتلبية مصلحة أو قضاء حاجة. صاروا كالمرايا المهملة، تعكس وجوه الآخرين دون أن يسأل أحد عن غبار السنين الذي غطى بريقها.
إن لم يبادروا هم بالسلام والسؤال، ف من الممكن أن تمر ايام، اسابيع، أشهر وربما أعوام دون أن يطرق بابهم أحد، ف تراهم يمسكون بالهاتف، يقلبون الأرقام بأصابع مرتجفة، ثم يغلقونه خشية أن تكون نبرة صوتهم ثقلاً على من كانوا يوماً محور حياتهم. يتساءلون في صمت”هل حقاً لم نعد مهمين؟ أم أن الحياة أسرعت بهم ونسوا بأننا لازلنا على قيد الحياة؟”
وسرعان ما يعمّ الصمت في البيوت التي بناها حُبهم، ويشعرون وكأن العالم قد أغلق أبوابه دونهم، وكأنهم صفحات من كتاب قد قُرئ وانتهى زمنه. لكنهم، رغم الألم الذي يثقل قلوبهم، يملكون قوة الصبر، وقوة الانتظار، وكأنهم يوقنون أن الحب لا يموت، لكنه أحياناً يضيع وسط ضجيج الحياة.
هم وحدهم يدركون كم أن الوحدة قاسية حينما تلتهم سنواتهم، وكم أن الصمت موجع حين لا يجد من يستمع إلى أنين قلوبهم الحزينة. هؤلاء الذين كانوا أبطالاً في مسرح الحياة، باتوا اليوم جالسين في صفوف الجمهور، يشاهدون المشهد الأخير بصمت، متسائلين: هل من أحد سيذكرنا بعد إسدال الستار؟
ف يا من نسيتم جذوركم، أفيقوا من غفلتكم وعودوا إلى من زرعوا فيكم القدرة على التحليق، إلى من نسجوا لكم أجنحة الحلم من خيوط تعبهم وأمانيهم. لا تجعلوا أجنحتكم الآن تُظلل الآخرين، بينما تتركون في الظل تلك الأجنحة التي حملتكم يوماً فوق رياح الحياة العاصفة. تأملوا أيديهم المرتجفة، تلك الأيدي التي امتدت يوماً لتنهض بكم، تمتد لكم الآن ولكن في صمت، لا طلب فيها ولا انتظار برد الجميل، بل نداء خفي، لا يسمعه سوى من كان قلبه يستمع لأنين الوحدة التي يُعانون منها، ليستجدوا منكم أن تروا ما وراء الصمت. ها هي أيديهم المرتعشة تمتد نحوكم، لا بإنتظار معروفٍ، بل بلهفة الصامتين الذين يُناجونكم دون صوت، كأنهم يُذكّرونكم بأن الحنين، وإن أخفته السنين، يبقى طيفاً يُضيء طريق العودة.
لمطالعة المزيد من مقالات ضحى الباسوسي..اضغط على الرابط التالي:
https://www.hayatty2day.com/?s=%D8%B6%D8%AD%D9%89+%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%A7%D8%B3%D9%88%D8%B3%D9%8A