تساقطت زخَّات المطر برفقٍ على الأرض وأجسامها، فإذا بها تتحطَّم بالحواجز الأسمنتية التي لم تعبأ برقتها وذكَّرتها بوجودها وقساوة شخصها، تفاجأت، لم تُرِد الزخَّات الرقيقة إلَّا أن تلامس أرضًا وتروي جفافًا خلفه لظى الأيام، محاولةً أن تبثَّ روح المطر في أغوار الأرض وتأسر بشذاها المنعش الأرواح الحية في تلك البقة، بيد أنَّ الأرض محصَّنة من كل مكان، ارتعبت من هذا الاستقبال ثم انتحرت بعضها وانسحب بعضها الآخر يائسًا، بينما انزلق فوجٌ ثالث منها على الأجساد البشرية فإذا بهم ينفضوها عنهم غير عابئين بها أو منعوها من ملامستهم بسُحبٍ ذات ألوان قاتمة أو سوداء، ثم تهاوت لتُسحَق تحت الأقدام، لقد قتلوها بصمتٍ عجيب.
ورغم آلامها توالت، توالت لتحاول النفاذ إلى أرواح البشر، لم تدرِ أنَّ الأرواح هنا لم تعد أرواحًا، بل حملت كل زوابع وأعاصير الزمن، القسوة والجفاف، الكل يجري لكده وعمله، لا وقت ليتأمَّلوا جمالها، لا وقت ليتمتَّعوا بالطبيعة، لا وقت لديهم لتغتسل قلوبهم بطهارتها من دنس العُمران، لا وقت لتلين عقولهم وتستقبل رقتها إبَّان وصولها.
أنَّى لرائحة المطر ورقته ونسيمه أن يبثَّ روحًا في حجارة أسمنتية؟ أنَّى للزخَّات أن تبثَّ روحًا في أجسادٍ انتُزِعت منها ميكانيكية العمل وقسوته معنى الحياة؟
تباكت الزخَّات على الأرض والمباني والبشر، تباكت أن أقبلت شوقًا فنالت نهايةً مفجعةً دون أن يستشعر وجودها أو مأساتها أحد.
تباكت، ثم توقَّفت بصمت.
—————————————
- كاتبة وطبيبة من اليمن.