تكون المودة عموداً أساسياً لبقاء العلاقة وشرطاً لاستمرارها، أما المحبة فبرغم كونها صفة قلبية خفية غير ظاهرة إلا أنك ستجدها ظاهرة ومعلنة عن نفسها – كالشمس فى كبد السماء محلها – فى كل السلوكيات جميعها، شاهدة عليها، شارحة لمكنونها ومعبرة عن حقيقة جوهرها.
يقول المعلم الأول «أرسطو» عنها: إنها إحدى الحاجات الأشد ضرورة للحياة، فلا أحد يقبل بأن يعيش بلا أصدقاء ولو كان له مع ذلك كل الخيرات، كما قال عنها أيضاً: إنها الملاذ الوحيد الذى يمكننا الاعتصام به فى البؤس والشدائد.
ويصف عُلو منزلتها وكامل فضلها الرافعى حينما قال فيها: لا يلقّاها إلا ذو حظ عظيم، أما جبران خليل جبران نصحنا بألا نطلق مصطلحها على كل عابر يمر بحياتنا حتى لا نقول يوما أن الأصدقاء يتغيرون، كما يصفها وصفا مختلفا الكاتب أحمد خالد توفيق فقال إننى حينما أضعك فى هذه المنزلة فأراك تلقائيا جديرا بأن أئتمنك على جزء من كرامتي.
إنها الصداقة يا سادة، أعظم النِّعم وأبهى العطايا وأكمل المِنح التى يهبها المولى لنا لتسعدنا وتنير دربنا أن كانت بحق مثالاً للصداقة الحقيقية القوية القائمة بذاتها وبحقيقة مضمونها وإخلاص هدفها وليست عَرَضية مؤقتة تستمد وجودها من مصلحة أو منفعة أو غرض دنيوى زائل.
ويحضر فى ذهنى هنا رأى أرسطو فى أنواع الصداقة، فقسمها إلى ثلاثة أنواع تبعاً لبواعث المحبة بين الأشخاص ودوافعها، فالنوع الأول: هو صداقة المنفعة أو المصلحة، والنوع الثانى هو صداقة اللذة أو المتعة أو السعادة، أما النوع الثالث والأخير هو صداقة الفضيلة.
أما عن النوع الأول، فلا يخفى علينا جميعًا، فما من أحد فينا إلا وقد مرّ عليه هذا النوع، مثل الناس الذين يحب بعضهم بعضًا لا لذواتهم بل للفائدة التى تكون عند كل منهم للآخر، فهى علاقة لم تقم على أساس المحبة الخالصة المتبادلة منذ البداية بل قامت على المصلحة المادية المكتسبة من وراء تلك العلاقة.
والمصالح فى رأيى أنواع، فهناك المصالح المادية مثل كسب المكاسب المادية والوصول إلى المناصب الرفيعة والتى عجز بمفرده عن الوصول لها فيلجأ لغيره لإشباعها واقتناصها، وهناك أيضاً المصالح المعنوية وهذا النوع خاص بالأفراد غير المحتاجين للمنافع المادية، مثل مصادقة المشاهير من الساسة ورجال الدين والمفكرين البارزين والتوسل إليهم بشتى الطرق لإشباع حاجة فى نفسه ولكسب منفعة معنوية تتمثل فى تحقيق الشهرة والسمعة الاجتماعية والمركز الاجتماعى المرموق فكونهم يلتصقون بالمشاهير ويكونون فى معيّتهم، فيُشار لهم بالبنان كونهم ذوى معرفة وثيقة بهؤلاء المشاهير فتزداد ثقتهم فى أنفسهم ويتباهون بذلك لمن حولهم لتعلوا أسهمهم، أما النوع الثالث فى رأيى فهى المصلحة القائمة على المصالح العلمية وهى علاقات المودة المصطنعة القائمة على هدف وهو مصادقة أصحاب العلم كى یستفيدوا منكم وبعد انقضاء حاجاتهم يقطعون صلتهم بكم ویعدونكم مجرد ذكرى وتاريخ محذوف.
ووصف أرسطو هذا النوع بالصداقات العرضية والتى سرعان ما تنقطع أواصرها عندما تنتهى أغراضها ويتحقق المرجو منها.
وتتولد عقدة نفسية كبيرة عند الكثير من الأفراد خاصة المشاهير أو ذوى السلطة – رأيتهم بنفسى – حينما تزول السلطة وتنقضى، وتخفت الأضواء وتتحول عنه لآخر بعد أن كان مشهوراً يُشار له بالبنان ويتحدث العامة عنه، يبدأ وقتها فى التفكير العميق وتفنيد قوائم الأصدقاء تفنيداً حقيقياً، فيتساءل من بقى معى بعد أن فقدت منصبى؟ ومن لزم الجوار وقد انحسرت الأضواء؟
سُئل على بن أبى طالب كرّم الله وجهه: «كم صديقاً لك؟ قال لا أدرى الآن! لأن الدنيا مقبلة على والناس كلهم أصدقائى وإنما أعرف ذلك إذا أدبرت عنى فخير الأصدقاء من أقبل إذا أدبر الزمان عنك». صديقك الحقيقى من يستمر معك، من يحبك لذاتك دون غرض أو مصلحة أو منفعة وإلا فلم يكن صديق من البداية.
————————–
rashaelshayeb@gmail.com
* نقلا عن بوابة الوفد بالتنسيق مع الكاتبة.