الأحد , 15 سبتمبر 2024

“ذاكر الماضي”…بقلم: ضحى أحمد الباسوسي

= 6072

في القرية، كان هناك رجل يُعرف بإسم “ذاكر الماضي”. لم تمض جلسة أو يدور حوار إلا ويتعالى صوته ليُنسج من خيوط حكاياته إخفاقات الآخرين في الماضي. كان كغراب يشدو بألحان النحس والخراب، ينقض على كل قصة فيها ليُحيِّ جراح الفشل القديمة. امتلك “ذاكر الماضي” ذاكرة حادة كالسيف، تقطع أحلام الحاضرين، وتُعيدهم عنوة إلى ماضٍ لطالما حاولوا الهروب منه بكل قواهم. كلماته كانت كالأمطار المالحة، تهطل على جروح لم تلتئم بعد فتزيدها التهاباً.

مع كل ذكرى يُحييها، كانت العيون تنكسر إلى الأرض، والوجوه تشحب كأنما تتجرع مرارة تلك الأيام من جديد. كان يظن نفسه حكيماً، ينثر دروس الماضي لعبرة أو لحكمة ما، غير مدرك أن عبراته كانت كالسهام المسمومة، تخترق الأرواح وتؤلم القلوب. في كل مرة يُنفث فيها عن ذكريات الأخرين من أخطاء، كان يظن أنه يُضيء الطريق أمامهم، بينما كان في الحقيقة يطفئ شموع الأمل في قلوبهم.

في كل مجلس، كانت الألسنة تنحبس خلف أسوار الصمت، خشية أن تصطادها شباك قنصه المتربصة بالأخطاء. الكلمات كانت تتحطم على شفاههم، كأمواج تتلاشى أمام صخور الخوف، خشية أن تقودهم إلى محاكمة “ذاكر الماضي” القاسية. لم يكن يعي أن وجوده كان كسحابة سوداء، تحجب شمس الفرح والأمل، وأن حديثه كان كمطر مُرٍ ينسكب بالحنظل يُفسد طعم الحياة.
مع مرور الأيام، بدأ الناس ينسحبون من مجلسه ببطء، ك الهاربين من عاصفة هوجاء. كانت الأحاديث تتبدل وجهتها كلما اقترب، كنهر يغيّر مساره ليتجنب الصخور ويواصل جريانه بسلاسة. حتى الأطفال في القرية، كانوا يتعلمون الصمت عند مروره، خوفاً من أن يتحول لعبهم إلى قصة فشل تروى على الملأ، لدرجة أن مروره أمامهم يخنق ضحكاتهم ويحولها إلى همسات حذرة.

أصبح “ذاكر الماضي” ملك متوج في مملكة عتيقة من أطلال الماضي المشوه، لا يؤنس وحدته سوى ذكرياته البائسة، تلك التي لا تعرف سوى مسالك الفشل والانكسار. جلس وحيداً بين ظلال قصره القديم، مُحاوراً الأرواح الخفية، غير مدرك أن ما يراه عبرة وحكمة، كان هو السبب في طرد الناس من حوله. الحياة كانت تهمس له بإصرار لا يلين: “أن الماضي يجب أن يبقى في زوايا الأذهان، لا في مجالس الكلام. وأن الحكمة الحقيقية تتلألأ في السير نحو الأمام، في فتح أبواب الأمل والتفاؤل على مصاريعها” لكن “ذاكر الماضي” بقي مغموراً في ظلال الذكريات، غير قادر على لمس فراشات المستقبل وما تحمله من فرح وضحكات.

شاهد أيضاً

سهير عمارة - كاتبة 023

سهير عمارة تكتب: عابرون دون انتظار!

عدد المشاهدات = 6107 سألني خاطري سؤالا هل ندمت على معرفة أحد وكانت إجابتي.. لو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.