الخميس , 10 أكتوبر 2024
الجنزوري والزيات وغلاف الرواية

الممنوع والمشروع … في رواية “عوالم محظورة” للدكتور طارق الزيات

= 2919

بقلم: صابر الجنزوري

يأخذنا الكاتب الروائي دكتور طارق الزيات في روايته (عوالم محظورة)
إلى عالم البحث العلمي وزراعة الأعضاء خاصة زراعة قرنية العين وزراعة العين نفسها في إطار تشويقي بوليسي يتخلله بعضا من الرومانسية الواقعية والتضحيات.
ومن خلال فكرة الرواية يضعنا أمام السؤال الذي أرى أنه محور وهدف الرواية ألا هو : ما هو المشروع وماهو المحظور فى البحث العلمي عندما يصطدم بحياة الإنسان وأعضاءه ؟
الرواية أو النص الأدبي يعتمدان على عناصر القص التي يجب أن يمتلكها الكاتب ويوظفها في خدمة مشروعه الروائي الذي يعتمد غالبا على فكرة والفكرة يكون لها هدف والهدف يقدم رسالة ، فإذا امتلك الكاتب الموهبة والثقافة العامة من خلال قراءاته وتجاربه ومشاهداته في الحياة ، استطاع أن ينتج عملا متميزا باستخدام أدواته لعناصر الرواية.
في عوالم محظورة قدم لنا الدكتور طارق الزيات ذلك فى روايته ، فقد وظف موهبته وتجاربه الوظيفية ومشاهداته في الحياة وكم التراكمات المعرفية والثقافية فى هذه الرواية ، ولعل الجانب البوليسي التشويقي الذى أضفى على الرواية نوعا من التشويق والإثارة ينتمي إلى التجارب العملية والحياتية التى عاشها الكاتب فوظفها بشكل جيد فى عمله الروائي اما البحث العلمي فلعله قرأ واستمع وشاهد وجلس مع أطباء للعيون ولعله دخل العيادة ورأي واستمع لشرح الطبيب فقدم ذلك الوصف الدقيق الذي يخدم فكرته التى تقوم على زراعة القرنية او عين كاملة للذين فقدوا البصر.
إذا ما تحدثنا عن القرنية فيجب أن نعرف ما هيتها وطبيعتها وتاريخ بدء زراعتها وباختصار شديد قبل البدء في تقديم تلك القراءة أو الدراسة للرواية ، وحسب موسوعة المعلومات بمحرك البحث بجوجل
في تعريف القرنية وتاريخ زراعتها تقول الموسوعة أن القرنية هي :
هي الجزء الأمامي الشفاف من العين الذي يغطي قزحية العين (الجزء الملون من العين) وبينهم الغرفة الأمامية للعين وعملية زرع القرنية هي عملية جراحية يتم فيها استبدال القرنية التالفة أو المريضة بأخرى سليمة، وعندما يتم استبدال القرنية بالكامل يعرف ذلك
Penetrating keratoplasty
وعندما يتم استبدال الأنسجة التالفة فقط من القرنية يسمي ذلك ب Lameller keratoplasty والقرنية المتبرع بها تُؤخذ من شخص ميت حديثاً بحيث تكون القرنية سليمة ليس بها أي مرض أو عامل يؤثر عليها، وعن تاريخ بداية زرع القرنية فقد تم إجراء أول عملية زرع قرنية في عام 1905 بواسطة الدكتور
ادوارد زيرم
Eduard Zirm
في مستشفى
Olomouc Eye Clinic بجمهورية التشيك، ولقد نجح الجراح فلاديمير فيلاتوف
Vladimir Filatov
في زراعة قرنية لمريض من شخص متوفي وذلك في 6 مايو 1931 بعد محاولات مضنية استمرت من عام 1912 إلى 1931 وقد ابلغ عن زراعة قرنية لحالة أخرى في عام 1936 وكشف عن اسلوبه الذي اتبعه بالتفصيل.
في عام 1936 قام
رامون كاستروفييو
Ramon Castroviejo
بأول عملية زرع قرنية في حالة تعاني من القرنية المخروطيه واستمتع المريض بتحسن كبير في النظر بعد إجراء العملية وقد ساهمت بنوك حفظ القرنية في تطور كبير في هذا المجال.
***
كانت هذه مقدمة تمهد لنا الطريق إلى فهم الرواية التى تعتمد على فكرة زراعة القرنية ومن ثم الدخول إلى العوالم المحظورة التى أرادها الكاتب.
الفكرة ،الأشخاص، الحكاية:
الفكرة التى اعتمد عليها الكاتب وبنى نظريته الروائية
تنتمي للبحث العلمي وزراعة الأعضاء حيث يقدم لنا الكاتب بطله الدكتور “كمال” طبيبا ماهرا في طب العيون ، فهو طبيب ثري يسكن في الزمالك في شقة تطل على النيل ، اكتسب شهرة كبيرة فى مجال طب العيون ، لم يفكر فى الزواج ، كان البحث العلمي يشغله ، يريد اكتشاف يحقق للبشرية فائدة كبيرة ويحقق له مجدا لم يصل إليه أحد ، كيف يتم زراعة عين كاملة للإنسان؟
بدأ في تنفيذ فكرته من خلال فكرة الغاية تبرر الوسيلة
بإجراء التجارب على المرضى بطرق غير مشروعة وضد المبادئ والأخلاق ، كان لا بد أن يجرب ذلك عمليا ، لم يكن يستطيع أن يفعل ذلك وحده ، فقدم لنا الكاتب هنا بعض الشخصيات المحورية المهمة التى تساعده ، ، فقدم لنا صديقه “منصور” وهو صديقه الوفي طبيب عيون شاطر يرفض الزواج وعنده فلسفة الاستمتاع بحياته وفلوسه فيتمتع بكل شيء في الحياة حتى الخمر والنساء ومبدأه وفلسفته لماذا أتزوج وأنجب أطفالا قد يكونوا تعساء أو اكون سببا في شقاءهم وتعاستهم.
ونراه يقدم لنا العنصر النسائي لبطلة الرواية الجميلة المثقفة طبيبة العيون دكتورة منار التي يفكر كمال فى الاستعانة بها وهي التى تحبه فى صمت فيستغل كمال ذلك الحب لتحقيق هدفه ، من منطلق الغاية تبرر الوسيلة ، فتقدم لها وتزوجها فى فترة قصيرة جدا لتقوم بعمليات المستشفى في الوقت الذي يتفرغ فيه لمشروعه وتقوم أيضا بمساعدته فى أبحاثه ، وقد كان من الذكاء أن يخبرها بكل شيء ويضعها أمام الأمر الواقع فتقبل رغم خوفها وعدم رضائها وتستمر في تضحيتها ووقوفها بجانبه ودعمه بعد أن حملت منه ..
ثم يقدم لنا الكاتب أسرة الدكتورة منار التى تسكن بالتجمع والمكونة من الأب محيي وهو مهندس مدني
والأم عواطف مديرة ببنك والأخت فريدة دكتورة بكلية الأداب وعم كمال المستشار أسعد ..
وحتى يحقق الدكتور كمال هدفه يلجأ إلى عبد الموجود عامل المشرحة الذي يساعده في نزع قرنية متوقاه حديثا ، ينكشف الأمر وتبدأ التحقيقات ، فيدخل الجانب التشويقي والإثارة البوليسية من خلال العميد يسري الذي يمسك ملف القضية بتكليف من اللواء نجيب ، الذي يقدم أحد الضباط للتحقيق والمحاكمة لاستخدامه العنف بضرب زميل عبد الموجود والذي يساعد كمال فى الحصول على القرنية من المتوفين حديثا ، فكان من ذكاء بطل الرواية الغير طبيعي أن يؤجر منزلا بمدينة الشروق ويأتي بالشافعي وعبد الموجود ليكونا مساعدين له فى الحصول على القرنيات ، ولكن من الموتى ” قرنيات الموتى”..
حيث يتقصى عبد الموجود وشافعي المقابر على طريق السويس ويجزلان العطاء لحراس المقابر ، لينزل كمال إلى المقبرة بعد دفن الجثة مباشرة وينتزع القرنية ..
يبدأ كمال فى زرع أول قرنية لحالة لم تكن تحتاج لزرع قرنية ، لكنه يوهم صاحبتها “سميرة” فتقبل بالعملية ، تنجح العملية ويحدث مالم يكن فى الحسبان …
ترى سميرة عوالم غريبة وأجسادا خاوية وهوام وحشرات ولا أحد يرى ذلك غيرها ؟ يعرف كمال بذلك لكنه لا ينزعج فهو يؤمن أن هناك عوالم تعيش معنا وعوالم أخرى موجودة ولا نستطيع رؤيتها بأعيننا المجردة ولذلك عندما أجرى كمال العملية وركب لسميرة القرنية الجديدة بعدسة صناعية تعطى رؤية غير التى تعطيها العين المجردة فرأت سميرة تلك العوالم التى لم تتحمل رؤيتها فما كان منها إلا أن انتحرت ، وتمضي الأحداث ويضيق الحصار على كمال ، فيضطر أن يضغط على منصور ليقوم بعمل التجربة على نفسه ، فيرى كمال ما كانت سميرة تراه من عوالم وهوام وأجساد خاوية ..
تصل الأحداث فى إطار تشويقي بوليسي للنهاية فيضعنا الكاتب أمام نهاية أقرب للدهشة عندما يهرب كمال للخارج بمساعدة صديقه منصور الذي تصفه عواطف أم دكتورة منار عندما يتقدم لزواج فريده أخت منار بأنه قصير وأصلع وبكرش لكن فريده كانت قد أحبته وتقبل به بعد عزوفه عن الزواج ،
لكنه الصديق الوفي الذي يساعد صديقه ليهرب من العقوبة التى بانتظاره اذا ما تم القبض عليه ، وتلحق منار كمال مع ابنتهما الصغيرة “هاديه” التى وضعتها بعد هروبه ويعملان معا فى مستشفى بفرنسا لتأتي درامية المشهد الأخير فيقدم الكاتب (الكارما والعقاب)
لبطل روايته الطبيب كمال.
تنتهي الرواية لكن ما زال الحديث عنها يطول فبعد معرفة الأحداث والأشخاص
وفكرة وهدف الرواية نتوقف عند ملامح الرواية وعناصرها عند الكاتب دكتور طارق الزيات وهل تم توظيف العناصر بشكل إيجابي أم هناك طغيان عنصر على عنصر أم هناك إيجابيات وسلبيات .
الفكرة والهدف
القاريء لأدب الدكتور طارق الزيات يعرف ويدرك أن من أهم ملامح وعناصر الكتابة الروائية والقصصية عنده هي الاعتماد على الحوار بشكل كبير وهو متمكن من ذلك ..
فإذا ما تناولنا الفكرة التى انطلق منها الكاتب في روايته لعلنا نجد أن الفكرة غير تقليدية وكذلك الهدف العلمي وهو عمليات زرع القرنية للوصول إلى زراعة العين كاملة
وذلك ما جعل للرواية قبولا عند القاريء لأن القاريء يريد أن يقرأ شيئا جديدا هادفا غير تقليدي..
اللغة والحوار والسرد
والأمر الثاني الذي يتعلق باللغة
فإننا نرى لغة الرواية بسيطة وسهلة بعيدا عن التعقيد حتى أنه استخدم ألفاظا عامية دارجة فتأرجت اللغة بين سرد بالفصحي قليل وحوار بالعامية الراقية كثير ..
ويأخذنا ذلك لنتطرق إلى الحوار والسرد فنجد ان الحوار طغى كثيرا على السرد الذي استخدم فيه نموذج الراوي العليم الذي يعرف كل شيء وبالفعل نجح ذلك الإختيار وتناسب مع طبيعة الرواية..
ونعود إلى الحوار فنجد ان الحوار قد استحوذ تقريبا على أكثر من ثمانين في المئة من الرواية حتى أننا كنا نلاحظ ظهور شخصية من شخصيات الرواية كشخصية المستشار أسعد عم البطل كمال من خلال الحوار وكأنها هبطت فجأة دون تمهيد..
ومع ذلك نستطيع أن نقول أننا أمام لغة راقية دون إسفاف وحوار اعتمد على الجمل القصيرة دون زيادة أو مط او ملل.
الحبكة والمشهدية
وإذا أتينا إلى حبكة الرواية فإننا نجد بشكل عام في روايات دكتور طارق الزيات تميزا ، حيث أنه يربط الأحداث بشكل جيد ، ينتقل بين المشاهد بسلاسة ، يتوقف بالمشهد فى الوقت المناسب لينتقل إلى مشهد أخر بقوة ، مما يضفي على العمل جاذبية المشهد وتطلع المتلقي لمعرفة النهاية..
وفي نطاق ذلك العمل نلاحظ من خلال اعتمادية الكاتب فى هذا العمل على الحوار ثم المشهدية فنجد أننا أمام سيمائية الرواية ، بمعني أننا نستطيع أن نتخيل أن الكاتب تعمد بقصد أن يقدم روايته للسينما فنجد أن السرد بين كل مشهد ومشهد قليل كأنه يقدم وصفا وسيناريو للمشهد ثم يدخل فى الحوار ولعل ذلك من أهم خصائص عملية السيناريو فى السينما ، وهناك خاصية أخرى في السيناريو وهي ما يطلق عليها بالسيناريو التنفيذي ذلك الذي يتم تقديمه قبل تنفيذ المشهد وتصويره مباشرة وهو ما يطلق عليه (الديكوباج) وهو ما نجده تقريبا فى الرواية فما بين المشاهد من توصيف للمشهد وبين الحوار والإنتقال بين المشاهد وتقطيعها وتقسيم الرواية لمشاهد تتصاعد مع الأحداث والدراما والإثارة نجد أن الكاتب قد نجح بالفعل في ذلك..
الشخصيات والزمان والمكان:
لعل الشخصيات كما تحدثنا عنها في البداية كانت من أهم العناصر في الرواية فرسم الشخصيات وطريقة حديثها ووصفها تشعر أنها تقترب من الواقع وتعيش بيننا وربما يشعرنا الكاتب أنه يعرفها خاصة من خلال تقديم طريقة حياتها وطريقة أكلها وطريقة معيشتها بين الزمالك والتجمع ، وعندما اختار مكانا ليجري به أبحاثه اختاره أيضا فى مدينة الشروق ، إذا هو تعمد اختيار المكان ليتوافق مع طريقة ومعيشة وأسلوب حياة الثراء التي يعيشها أبطال الرواية وذلك المكان يتوافق مع الزمان الحاضر الذي ليس بعيدا فالتجمعات الجديدة كالتجمع والشروق هي مجتمعات جديدة وما زال يضاف إليها امتدادات سكنية راقية أخرى.
لعلنا الأن نأتي إلى فكرة العوالم المحظورة فنسأل هل قدم الدكتور طارق هذه العوالم فى صورة الكائنات والهوام التى رأتها سميرة ورآها كمال بعد إجراء العملية ؟
وهل أثرت بشكل إيجابي أو سلبي في مجريات الأحداث ؟
الإجابة تقول : أن هناك عوالم لا نستطيع ان نراها تعيش حولنا وبيننا أو عوالم أخرى ونحتاج إلى أجهزة معينة لرؤيتها كما حدث مع كمال وسميرة وكان تأثيرها مع سميرة سلبيا فانتحرت ، ولم تؤثر مع كمال لإدراكه وإيمانه بوجودها حتى أنه كان يدفعها بيده إذا ما ظهرت له فى وجود احد وكأنه يهش ذبابة..
كان هذا كل دورها وظهورها في الرواية فلم يكن لها أبعادا أخرى وكان دورها محدودا خاصة إذا قلنا أن العنوان قد اعتمد عليها
ولو أعطاها الكاتب أبعادا أكبر من ذلك لأشبعت رغبة المتلقي فقد كنت أنتظر كقارئ ذلك ..
لكن لو فكرنا فيما أبعد من ذلك
وقلنا ان الكاتب يريد معنى آخر لعنوان روايته عوالم محظورة
فنقول ربما ذلك والتأويل هنا مطلوب فقد تكون هذه العوالم هي المجتمعات التى تكفر العلماء والمفكرين ولا تتقبل العلم والبحث العلمي وتصطدم بالدين وتدخل في نطاق التحريم والتكفير ، قد يكون ذلك مقبولا إذا ما نظرنا وقارنا مجتمعاتنا بالمجتمع الأمريكي والغربي الذي يملك بنوكا للقرنية وبنوكا للأعضاء البشرية التى يتبرع بها الناس قبل موتهم ويوصون بالتبرع بأعضائهم للبحث العلمي وللبشر الذين في حاجة لزرع أعضاء تجعلهم يعيشون بها بدلا من الموت رغم أن إيماننا بأن لكل أجل كتاب ولكنها قضية اثارها الكاتب بذكاء شديد فطرح القضية في شكل روائي وترك المتلقي يسأل
ما هو المشروع وما هو المحظور؟
ولا شك أن الإجابة في الغرب معروفة والإجابة في الشرق
عندما تصطدم بالدين تكون صعبة جدا وجدلية جدا جدا.
تحية وتقدير للدكتور طارق الزيات على تقديمه هذه الفكرة في عمل روائي جيد ينتمي لباقورة أعماله الراقية التي نستطيع أن نحجز لها مكانة بمكتبة البيت ليقرأها أبنائنا وشبابنا دون قلق ، مبروك دكتور طارق وكل التمنيات الطيبة بدوام التوفيق والتألق والنجاح في أعمال وروايات أخرى بإذن الله.
صابر الجنزوري
صباح الخميس
٢٦ سبتمبر ٢٠٢٤

شاهد أيضاً

فوز الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانج بجائزة نوبل للآداب

عدد المشاهدات = 764   أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية فوز الكاتبة الكورية هان كانج بجائزة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.