الخميس , 28 مارس 2024

“طيف زهرة”… قصة قصيرة بقلم مروة حمزة

= 5992

الحلو ابو شامة على جبينه.. قال إيه قال محنش عاجبينه

قضينا الليل بعده سهارى .. لفينا وراه حارة بحارة

لا جار بيشوفنا ولا جارة
ليه ينسى اللي احنا فاكرينه

الحلو ابو شامة على جبينه ؟ قال إيه قال محنش عاجبينه
استيقظت “طيف” من نومها على صوت مذياع تخلل غرفتها وتسلل لفراشها، ايقظها من حلم تمنت لو طال ، اعلن عن دقات الساعة للتاسعة صباحًا وتبعته موسيقى عالية، جاءها من محل جزارة اسفل غرفتها .
نهضت تفكر في الحلم، محدثة نفسها : من هذا الفارس الوسيم الذي سيأتيني على حصانه الابيض ليخطفني؟! ماذا لو قصصته على “زهرة “؟ سيكون حديث اليوم، حلمي وجلبابي .
ونظرت لجلبابها الاحمر الداكن الملقى على كرسي وضع بجانب فراشها، فاليوم يوم الأثنين الذي تنتظره بفارغ الصبر كل اسبوع لزيارة ابنة خالتها المحببة لها “زهرة ” التي تسكن في حي الأنفوشي وتقضي اليوم معها من بدايته، فبينهما تشابهات كثيرة تقارب السن والاهتمامات تكاد تكون واحدة فتوثقت صداقتهما بالاضافة للقرابة التي ربطتهما .
ارتدت جلبابها, تأملته بالمرأة وتحسسته بيدها، كم أحبت تفاصيل جسدها فيه، راحت تتمايل به وتنظر كيف ضيقت جوانبه ليبرز ارتفاع صدرها، وصغر خصرها وجمال مفاتنها ليظهر جمال جسدها الانسيابي المخروط ، متخيلة نفسها حورية من حوريات البحر، وقصرت زيله فكشفت عن بياض ساقيها مزينة بالخلخال الذهبي ووضعت كفيها المحنيتين بكعب الغزال في خف فضي بكعب عال وأخذت تسير بتمايل وتموج وكأنها ترقص على ألحان الخلخال الناعمة برناته الجذابة معجبة بأنوثتها الطاغية.
خرجت من غرفتها لتعلن لأمها أنها جاهزة وقد التفت بملائة سوداء مرصعة بالترتر تظهر مفاتن جسدها أكثر مما تخفي جهزت الآم الزيارة الأسبوعية التي أعتادت أن تأخذها لأختها، فهي الاخرى تعود من عندها محملة بعطيات وخيرات الشيخ سلامة ” البخور والأعشاب ، والعسل الأسود والطحينة والمستكة والحبهان ورائحة الياسمين الفواحة، والسحلب والمغات لزوم برد الشتاء وكان على الابواب”، فالرجل يغدق عليهم من خير عطارته دون حساب.
*
خرجت “زهرة” على صوت “طيف”، تعانقت الفتاتان وتعالت الصيحات والضحكات والترحيب بحفاوة بالضيفتين المحببتين للعائلة،اخذتها من يدها ودخلت غرفتها ، وبمجرد أن أغلقت الباب زفت لها مفاجأة سارة بانتظارها، وقالت بنبرة إذاعية جادة والفرحة تعلو وجهها:
– الليلة “حفل ساهر” أمام القلعة لنجم الأغنية الشعبية ” محمد رشدي ” بصحبة فرقة “كنوز ” للرقص الشعبي.
علت الدهشة على وجه “طيف” وصرخت من الفرحة، فأطبقت “زهرة” يدها على فمها حتى لا يسمعها من بالبيت.
أعلنت الوالدتان عن الانتهاء من إعداد الغذاء ونادت على الفتاتان لمساعدتهما في تحضير المائدة وغرف الطعام، التفت العائلة المكونة من الشيخ سلامة وزوجته وبناته الثلاثة، وكانت “زهرة” اصغرهن، والخالة وابنتها “طيف” حول المائدة التي احتوت على ما لذ وطاب من المحمر والمشمر وما اشتهته الأنفس.
بعد تناول الطعام نادى الشيخ سلامة على البنات وأكد عليهن ضرورة حضور المقرأة مساء اليوم، التي يعدها لأهل حي الأنفوشي في الطابق الأرضي للبيت وقد حوله مع الوقت لـ “كتاب تحفيظ للقرآن” ، فالشيخ سلامة كان إمام مسجد بالإضافة لكونه صاحب محل عطارة مشهور في الحي .
بدأت الفتاتان تفكران في حيلة للهروب من المقرأة لحضور حفل القلعة، ولكن كيف سيهربان من الشيخ سلامة المعروف بشدته وعدم تهاونه فيما يخص جلسات القرآن .
اتفقتا على حضور المقرأة ومن ثم التسلل دون الشعور بهما للحفل، أما عن نقود التذاكر، فطمأنت “زهرة” “طيف” بأنها اخذتهم خفية كعادتها من درج العطارة، ضحكتا ودخلتا الغرفة تتحدثان وتتهامسان ، “طيف” تحكي حلمها لـ”زهرة”ورغبتها في ايجاد فتى أحلامها ليسكن قلبها الخالي ،يشاركها دنيتها ويملى عليها حياتها ،وظنها انه قريب منها ربما جار او من معارفها يخشى التقرب لربما تصده، و”زهرة” تشكو حالها لـ “طيف” وسوء معاملة أبيها لها وقسوته عليها وجعلها حبيسة داخل جدران البيت معظم الوقت لخوفه من ان يفلت عيارها كما يردد دائمًا ..
لينتهي الحديث بكلمات رددتهما معا واعتادتا على قولها كل مرة، وكأنها عهد وثقوه سويًا :
– ” لعلنا نستطيع أن نهرب سويًا لنصنع أحلامنا بعيدًا عن ضيق أفق عائلتنا “.
ضحكت الفتاتان وقامتا لتحضير ما سترتديه كلتيهما الليلة فإنها ليست ليلة عادية وعليهما الظهور بكامل زينتهما وأناقتهما .
رسمت “زهرة” الخطة بارتداء ملابس الحفل تحت عبائتهما السوداء التي تخفي ما ارتدوه بأسفلها.
حضرت الفتاتان المقرأة وجلستا في الأمام كي تنتهيان سريعًا من تلاوة ما تيسر من القرآن ، نجحت الخطة واستطاعوا أن يتسللوا لخارج المنزل وقد اكتظ بالحفظة والمقرأيين، فلم يشعر بهما أحد .
ركبت الفتاتان الحنطور بعدما ابتعدتا عن المنزل ، وسار بهما في اتجاه القلعة وكان الحفل قد بدأ منذ نصف ساعة. وخلف القلعة خلعت الفتاتان العباءات السوداء فكشفت عن ملابسهن اللامعة بألوانها الزاهية المزركشة ، وفاحت منهما رائحة العطر الفواحة التي أغرقتا بهما ملابسهما وزينتا كلا منهما وجهها بالمساحيق الحمراء على الشفاه والخدود، والخضراء فوق العيون، والكحل الاسود بين الجفون، وانطلقتا للحفل، راحتا تدندنان وراء رشدي :
ع الرمله وقاعد حبيبي ..
يا خوفي لا يكون ما داريبي ..
وسايبني ابني امل في الرمله ..
احلام وقصور واكتب كلمه ..
♪ ♫ ♪
ويا خوفي من الموجه الجايه ..
لا تاخدني من غير حنيه ..
وتهد قصوري وياها ..
ع الرمله .. ع الرمله
♪ ♫ ♪
شعرت الفتاتان برغبة في مشاركة الفرقة الشعبية الرقص، وكان التفاعل كبير ،ولكن ماذا لو رأتهم العيون ونقلت ما رأت للشيخ سلامة؟ ” سألت “طيف” .
لم تكترث “زهرة” بما سألته “طيف” فكانت واثقة بأن ما يجول في خاطرها لن يحدث، فهي في هذا المكان لا تخشى أحدا،”فلا الشيخ سلامة ولا مريدية يأتون لمثل هذه الحفلات التي تجذب الشياطين وأعوانهم” ضحكت “زهرة” وهي تطمئن “طيف” بتلك الكلمات لتبقى على راحتها بعدما شعرت بأن عدم ردها قلقها.
انطلقتا في الرقص والاستعراض بخفة ورشاقة أبهرت الحضور، وكان صوت رشدي يجلجل في المكان:
كعب الغزال يا متحني بدم الغزال ..
كعب الغزال يا متحني بدم الغزال ..
انا شايف الأرض بتتمرجح تحت الخلخال ..
متبطل تمشي بحنيه .. لا يقوم زلزال .. لا يقوم زلزال
♪ ♫ ♪ ♪ ♫ ♪
تعرفت الفتاتان على احدى الراقصات، واعطتهما عنوان الفرقة بالقاهرة بعدما اعجبت برقصاتهما وخفة حركاتهما على المسرح وشجعتهما للحاق بهما فهناك مستقبل واعد بانتظارهما .
وقبل نهاية الحفل بساعة استعدت الفتاتان للعودة قبل أن يشعر أهل البيت بغيابهما، ولكن حظهما العثر أن رآهما صبي الشيخ سلامة بالعطارة ، ولأنه أمين على بنات الشيخ وبيته كما أوصاه ، حكى له ما رآه ولم يخفي شيئا، وكان ذلك في اليوم التالي للحفل، صعد الشيخ سلامة تاركًا العطارة وكانت “طيف” ووالدتها قد غادرتا المنزل، ونادى على “زهرة” وفور أن رآها سألها بغضب :
– أين كنت ليلة أمس؟
ردت بسرعة وخيفة : في المقرأة .
الشيخ: وبعد المقرأة
زهرة : في البيت
الشيخ : هل هذا كل شيء؟
زهرة : نعم
الشيخ غاضبًا : أتكذبين
وفجاة انهال عليها بالضرب لسوء تصرفها وقلة حيائها،كما اتهمها.
صرخت “زهرة” صرخات عالية، أتت على وقعها اختيها وأمها، وحاولوا التدخل لإبعادها عن يده ، ولكن دون فائدة، لم يتركها إلا والدماء تتساقط من فمها ، وبيده خصلات من شعرها.
خرج الشيخ سلامة وهو يهددها بسفك دمها”بقطع رقبتها” لو تكرر الامر ، ومنعها من الالتقاء بابنة خالتها أو الخروج من البيت إلا للمقرأة.
لم تستجب لتهديداته وتحذيراته التي ضجرت منها وكرهتها بشدة طوال السنوات الماضية ،كانت تراه لا يكف عن النصح والإرشاد والتهديد والوعيد، ولا يعرف من دنيته سوى تحفيظ القرآن وخوفه الشديد عليهن وكأن من بالخارج مجموعة من الذئاب ستنهش لحم من يخرج منهن، وكان يردد دائما بأنه سيزوجهن لأول قادم قبل أن يسرن على حل شعرهن ويفلت عيارهن.
لم تكن “زهرة ” مثل شقيقتيها، رفضت الخضوع والاستسلام لأوام ونواهي الشيخ سلامة التي دومًا رأتها ضد رغباتها وطموحها، مرت عدة أيام وهي حبيسة غرفتها حتى أجبرها على النزول للكُتاب لتسميع ما حفظت من القرآن الكريم.
ظلت في انتظار فرصة للخلاص من البيت الذي تصورته سجن موحش، حتى “طيف” لم تعد تراها بناء على تعليماته، ومازاد الامر سوءا ما سمعته خلسة من حديث والدتها لخالتها عبر الهاتف، أن الشيخ سلامة قرر تزويجها لأحد تلاميذه المترددين على المقرأة، ولم تتمنى “زهرة” تلك الحياة الرتيبة التي لم تهواها ودومًا تمردت عليها، فلم تفكر أبدًا في الزواج الذي رأته تكبيلا لحريتها وتقييدًا لطموحها.
*
لم يمر الشهر وقد أعدت خطة للهروب، حانت الفرصة أخيرًا، تسللت من المنزل قبل صلاة الفجر والكل نيام، بعدما سرقت ما استطاعت من مال ابيها، وخرجت قاصدة القاهرة، وهو الحلم الذي راودها منذ أن فتحت عينيها على صور الفنانات في المجلات التي كانت تبتاعها وتخفيها منه.
توجهت “زهرة” ابنة السابعة عشرة من عمرها للعنوان الذي أعطته لها احدى راقصات فرقة “كنوز” أثناء حفل القلعة، وكان في شارع “محمد علي”، قضت يومها الأول في بنسيون قريب من الفرقة دلتها عليه “سوزي” الراقصة التي تعرفت عليها وقد استقبلتها بحفاوة ،لحين توافر سكن لها مثلهم في حالة موافقة المدير على ضمها لفرقة “كنوز” الراقصة بكباريه” السهرة”.
قضت الاسبوع الأول في انتظار رؤية مدير الكباريه، حتى استطاعت أن تصل له بمساعدة “سوزي”، ووافق على ضمها للفرقة، وقال وهو يرمقها بنظرات إعجاب :
– الفرقة في حاجة لروح شابة ودماء جديدة وأتمنى أن تكوني على قدر المسئولية والا تضجري .
ردت بثقة :
– سأكون عند حسن ظنك أكثر مما تتوقع .
انضمت لصفوف راقصات الفرقة وسرعان ما استوعبت الرقصات والحركات الاستعراضية .. وظلت تتقرب من المدير حتى أصبحت المفضلة لديه، أطلق عليها اسم “زيزي” ولثقته بامكانياتها وذكائها سمح لها بنزول الصالة رغم حداثتها بالفرقة، وكان دورها “فتاحة” أي تفتح زجاجات الخمر لكبار الزبائن وهو دور لم تناله إلا المرضيات عنهن.
وبعد أن كانت ترقص ضمن الفرقة ، أصبح لها نمرة خاصة بها .
علقت صورها ببدلة الرقص، وقد صبغت شعرها باللون الأصفر، على جدران الكباريه تحيط بها الانوار الساطعة ليلمع إسمها الراقصة الاستعراضية “زيزي”.
لم يشغل بالها يوما العودة لاهلها ولا حتى السؤال عنهم، ولكن طول الوقت كانت تفكر في “طيف” التي لم ترى أحد يقارب وجدانها مثلها.
ثماني سنوات مرت و”زهرة” ترقص وتتنقل بين الكباريهات المشهورة حتى تعرفت على مخرج سينمائي كان دائم التردد على الكباريه، ومن خلاله أصبحت تشارك في الافلام بدورها كراقصة.
وبات إسمها يلمع على أفيش الافلام وأغلفة المجلات، حتى فوجئت في يوم أثناء وضع لمسات التجميل على وجهها بدخول مساعدتها لغرفتها وقد كتبت على بابها “تياترو زيزي” لتخبرها عن ضيفة تريد رؤيتها، وسمحت لها بالدخول لتفاجأ بـ “طيف” هبت من جلستها مزهولة وبعد ثوان معدودة جذبتها بين ذراعيها وارتمت في احضانها لتبكيان معًا.
تمالكت “زهرة” نفسها وعدلت من مساحيق التجميل على وجهها، وتركت “طيف” في حجرتها لتؤدي نمرتها على أن تعود لها سريعًا، بعدما رفضت ان تلحق بها للصالة، لم يغفل لهما جفن تلك الليلة، سنوات طويلة مرت، كان عليهما إفراغ كل ما في جعبتهم من أعباء وهموم وحكايات ، فوجئت “زهرة” بموت أبيها الشيخ سلامة، تحسست خدها الايمن بيدها متذكرة الصفعات التي تلقتها منه، وكأن تأثيرها عليها أشد وقعًا من خبر موته ، وعلمت بسفر شقيقتيها بعد الزواج لاحدى الدول الخليجية، أما أمها فقد سافرت مع إحداهما، وتحول البيت لكُتاب كما أوصى الشيخ سلامة، أخبرتها انهم نسوها كما نستهم، بعدما أرهقهم البحث عنها بعد وفاة الشيخ سلامة حتى رأوا صورها على أغلفة إحدى المجلات ببدلة الرقص.
اعتدلت “طيف” في جلستها على الفراش بجانب “زهرة”، وقالت لها وهي تحدق في عينيها:
– حينما رأوا صورك ببدلة الرقص على احدى المجلات كانت الصدمة كبيرة وتبرؤا منك يا زهرة أما أنا فلم أنساكي
ولن اتخلى عنك ابدًا.
عانقتها “زهرة” وبكتا بشدة وقد عرفت أنها عانت حتى وصلت لها بعد ان توفت أمها وطلقت لحرمانها من الانجاب.
اتفقت الفتاتان على الا تفترقا مرة أخرى، في البداية كانت “طيف” تساعد “زهرة” في ترتيب مواعيدها وتنظيم يومها، الى أن أصبحت ضمن الراقصات بالفرقة التي اصبحت “زهرة” مدربتها.
وكما استبدل اسم زهرة بـ”زيزي” أصبح لـ”طيف” اسم فني تم اختياره لها وهو “طقطوقة”.
“زيزي” و”طقطوقة” .. اسمان يلمعان في مجال الرقص الشرقي .. ظهروا على شاشات السينما بدورهما كراقصات وزاع صيتهما، فلهما من الجمال نصيب كبير، وتتصفان بالدلال والإغراء والذكاء ليكتمل مثلث الانوثة، تهافت عليهم المخرجين والمنتجين،”زهرة” كانت الأعلى أجرا وشهرة عن “طيف” بحكم الخبرة والسنين.
لم تكتف “زهرة” بكونها الراقصة المشهورة “زيزي”، وعلى سقف طموحها، ارادت أن تمتلك كباريه خاص بها بعدما أصبح لديها مال وفير، ولكن في الواقع لم تكف الأموال التي معها لشراء كباريه، إقترحت “طيف” عليها فكرة شيطانية وهي أن تعود للاسكندرية مسقط رأسهما وتحول منزل الشيخ سلامة لكباريه، فالبيت من حقها بعد أن خلى من أهله وتحول لكُتاب.
أعجبت “زهرة” بالفكرة، وبعد أن شاورت المحيطين بها رأت أنها أولى بالمنزل ومساحته تسمح لتحويله لكباريه ومكانه مميز على البحر .
عادت “زهرة” للاسكندرية ومعها حارسها الخاص، غضبت حين وصلت للمنزل الذي تركته منذ أعوام ووجدته على حاله وإن كثر به الأطفال وحفظة القرآن في شكل حلقات يتوسطها مقريء يتلو عليهم الآيات القرآنية، افتعلت مشكلة كبيرة مع هؤلاء المحتالين كما وصفتهم لرئيس الحي قبل أن تأتيه، جلست أمامه بكامل أنوثتها وأناقتها ورائحة العطر تفوح منها في كل مكان ، أخرجت سيجارًا من حقيبتها ووضعتها على شفتيها وأشعلتها، واضعة ساقها العاري فوق الأخرى، وقالت له بدلال :
– يا فندم هؤلاء المحتالون حولوا منزل عائلتي لـ “تكية ” ومن حقي إعادته لاملاكي فأنا الاحق به.
أجابها بتلعثم ونظرات الإعجاب تفضح عينيه :
– تأكدي بأن الأمر لن يطول وكل ما أردتيه سيكون كما تشائين فلا تشغلي بالك مع هؤلاء المحتالين فهذه مهمتنا.
طردت دخانها نحوه لابعاد نظراته عن صدرها المشكوف وقالت بصوت أكثر نعومة :
– تحت أمرك فيما ستطلبه مني لإنهاء تراخيص الكباريه.
فتحت حقيبتها وأخرجت رزمة نقود كبيرة ألقتها أمامه قبل أن ينتبه لما قالته.
فعل كل ما طلبته منه ومنحها الترخيص، وخرجت من عنده وهي تشعر بالرضا والراحة بعد أن نجحت في مهمتها.
طردتهم جميعًا بأمر من رئيس الحي وهددتهم بمحاضر في الشرطة لو عادوا.
الان أصبح المنزل ملكها والكل رهن إشارتها، فلا قول غير قولها، ولا فعل غير فعلها، تأمر فيطيعون،تنهي فيمتنعون.
تغيرت معالم البيت وفي يوم وليلة حول لكباريه يحمل اسم ” كباريه النجوم “.
وعلقت صور “زيزي وطقطوقة” واللافتات البراقة اللامعة المحاطة بالأنوار والأضواء الساطعة على جدرانه من كل جانب .
“كُتاب الشيخ سلامة تحول لكباريه !!، آيات الله وقرآنه وصلواته تبدلت بالغناء والرقص والصاجات!!، لا حول ولا قوة إلا بالله، يخلق من ظهر العالم فاسد”.. كلمات تبادلتها الألسن ونطقتها الافواه في تأفف وضيق وحزن من أهل الحي، مصمصت الشفاه وضربت الأكفف ولكن لم يجرؤا على فعل شيء، فالمال والسطوة والقانون في صفها.
تمر الايام والسنوات وتزداد الأموال والشهرة، و”زيزي” و”طقطوقة” اسمان يلمعان على أفيش الأفلام بجوار أسماء كبار النجوم، وعلى جدران كباريه النجوم “كتاب الشيخ سلامة سابقا”.
حتى جاء يوم لم يكن في الحسبان، وكأن القدر أبى أن يتركها للهوها وعبثها، حين وقعت من مكان عال أثناء تصوير أحد المشاهد على سطح احدى البنايات لتنقل على أثرها للمستشفى في حالة إصابة بالغة كادت تودي بحياتها،أثرت على فقرات ظهرها، في باديء الامر شلت حركتها وأصبحت قعيدة على كرسي متحرك بعد اجراء عملية دقيقة بالفقرات، شهور قاربت على السنة وبممارسة العلاج الطبيعي استطاعت أن تتخلى عن الكرسي المتحرك شيئا فشيئا كما طمأنها الأطباء، لم تستسلم لمرضها، وقاومت وبمساعدة “طيف” تغلبت على إعاقتها وان كان لها أثر بالغ على ظهرها منعها من الرقص.
وكانت بداية السقوط الذي لم تتوقعه “زهرة” ولم تفكر فيه، لتسير في درب لم تخطط له، كيف للنجمة الراقصة اللامعة أن ينطفئ وهجها وبريقها بهذه السرعة والعمر مازال أمامها؟، أي قدر هذا الذي غدر بها وفعل معها ما لم يستطع البشر فعله ولا حتى أبيها الشيخ سلامة في عز جبروته؟، سألت نفسها يومًا وهي تنظر لموج البحر من شرفة الكباريه الخاص بها.
اصبحت “زهرة” تدير الكباريه دون أن ترقص، وأسندت لـ”طيف” تلك المهمة بالإضافة لتدريب الراقصات الجدد أمام عينيها، كانت تغضب وتسخط، تأمر وتنهي لتشعرهم بوجودها وتأثيرها، ساخطة على عجزها، ناقمة على قدرها.
لم تكن تلك أخر المفاجأت القدرية لزهرة ،بل خبأت لها الايام الكثير، حين دخلت عليها “طيف”مفزوعة ترتعش وكأن مسها سلك كهربائي، لتفاجئها بكابوس مخيف رأته في ليلة قررت أن تنامها بمنزلها القديم بكوم الدكة، وقصته عليها مرتعبة:
– رأيت الشياطين تسلسلني عن يميني وعن يساري وتجرني للجحيم جرا والنيران تعلو وتكبر لتلتهم الكباريه بالراقصات اللاتي أقوم بتدريبهن واستيقظت أصرخ قبل أن تمسني النار.
لا تؤمن “زهرة” بالأحلام والرؤى، تركتها تحكي وتعظها قائلة، وهي تمسك بكتفيها:
– هذه إشارة من الله يا “زهرة” الكابوس الذي رأيته وقبلها إصابتك، كلها إشارات علينا الأخذ بها، الكباريه شؤم علينا وآن الاوان للتخلص منه كفانا شهرة وأضواء لن تنفعنا يوم نقف بين يدي الله.
ثارت “زهرة” بوجهها حين فاجئتها بقرار الاعتزال، دفعت بيديها بعيدًا وقاطعت حديثها،صارخة بوجهها :
– اغربي عن وجهي، لا أريد أن اركي مرة أخرى، فأنت غبية ولن أغلق الكباريه لمجرد حلم ساذج من أحلامك، فلا أنظر سوى للواقع ولا أرى غيره، وإنتي مصرة أن تكوني مثل الشيخ سلامة وكل من هربت منهم يومًا.
أصبحت “زهرة” وحيدة بلا “طيف” تشد من أزرها وبلا “ظهر” يسندها ويساعدها على الرقص، كلما حاولت سقطت على المسرح وحُملت لغرفتها في حالة بائسة، تركت نفسها للسُكر والاكتئاب، زاد وزنها وتوقف المنتجين والمخرجين عن طلبها للمشاركة بأفلامهم.
إلى أن كانت الضربة القاضية، قرار نهائي بإزالة الكبارية لتوسعة الطريق، جن جنونها، ورفعت قضية على المحافظ وأوكلت محامي نهب ما تبقى من مالها بعدما خسر القضية وهدم الكباريه أمام أعين أهل الحي وهم يكبرون ويهللون، عوضت بثمن بخس أنفقته على الخمور التي أدمنتها وراحت تتجرعها كالماء.
جاءتها “طيف” للاطمئنان عليها بعدما علمت بهدم الكباريه لتجدها ملقاة على الرصيف بجانب صورها المحطمة أمام أنقاضه بحالة بائسة ونقلتها رغمًا عنها لاحدى مصحات العلاج من الادمان.
كانت “طيف” ترتدي الحجاب وقد حجت بيت الله وعلمت بوفاه أمها، لم تخبرها، لا لشيء سوى أن ” زهرة” لم تعد بكامل قواها العقلية، لا تعي شيئا، وتتمتم باستمرار وهي ترفع يدها لأعلى وتلوح بها وكأنها تحي الجمهور :
– أنا الراقصة اللامعة “زيزي” نجمة نجوم مصر .
خرجت زهرة من المصحة بعد أن أرهقت “طيف” مصاريفها، واخذتها معها لمنزلها.
لم ترضى “زهرة” بمصيرها وقضاء ربها وقد خف عقلها، خرجت أكثر من مرة للكورنيش، تتحدث للبحر تارة وكأنه الجمهور والمسرح ، وللمارة تارة ، فتهزي بالكلمات لكل من يمر أمامها تمسك بيده وتصرخ به :
– ألا تعرفني أنا زيزي النجمة الاستعراضية المشهورة.
لا يعرفها أحد،ويظنها من يراها بأنها تتسول، منهم من يعطيها وآخرون يبتعدون عنها ويتجاهلونها فملامح وجهها البائس وجسدها الممتليء كافيان لينساها الجميع .
وكلما أعادتها “طيف” للمنزل تسللت للخارج دون أن تشعر بها، حتى خرجت يومًا بلا عودة.
شوهدت ليلًا وهي تسير باتجاه الشاطيء، ومن رآها قال أنها دخلت للبحر واختفت ولم يلحق بها أحد، لتستيقظ الاسكندرية صباح يوم جديد على خبر العثور على جثة “زيزي” الراقصة المشهورة بعمر الخامسة والثلاثين غارقة وملقاة على الشاطيء في حالة يرثى لها.
“تمت”

شاهد أيضاً

أوبرا غارنييه … جولة في دار الأوبرا الفرنسية بباريس

عدد المشاهدات = 437 بقلم الكاتبة/ هبة محمد الأفندي دار الأوبرا الفرنسية بباريس المعروفة بأوبرا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.