السبت , 20 أبريل 2024
مجموعةٌ من العاملين في جريدة (العراق) مطلع الثمانينيات في عيد ميلاد الجريدة، ومنهم الصحفي الرياضي عدنان الجبوري في مقدمة القاعدين في اليمين، ويقف رئيس التحرير نصر الله الداودي في وسط الواقفين أقصى اليسار. (الصورة من أرشيف الزميل سعد عيدان)

بالحبر الأبيض: سيرة صحفية (٢٩): عيدٌ ملفقٌ وعربةٌ ليست فارغةً!

= 3301

بقلم: عليّ جبّار عطيّة

بعد سبع ليالٍ من عملي في جريدة العراق، أضفتُ إلى أعيادي عيداً مصطنعاً هو عيد ميلاد الجريدة !

كانت فرحتي الحقيقية أعيشها في عيدي الفطر، و الأضحى، أستعيد طفولتي المفقودة بالحلوى، وبعطر أبي وأمي ، وبأُرجوحة العيد، ودولاب الهواء، وبالركوب مع حشدٍ من الأطفال المتشحين بالملابس الملونة في عربةٍ يقودها حوذيّ بشوشٍ يلكز بالسوط ظهر حصانٍ هرمٍ حاثاً إياه على متابعة الطريق وسط هتافاتنا الضاجة بالمرح، مبتعداً قليلاً عن مرثية المتنبي (عيدٌ، بأية حالٍ عدتَ يا عيدُ) !

حل يوم الاثنين ١٩٩٢/٢/١٧ علينا فكان منتسبو جريدة (العراق) ينتظرون هذا اليوم لا ليحتفلوا بذكرى تأسيس الجريدة، وإنَّما للحصول على مكافأة نصف راتب، وقنينة ببسي كولا، وقطعة كيك ضد الحصار !

قامت جريدة (العراق) في مثل هذا اليوم سنة ١٩٧٦م على أكتاف جريدة (التآخي) التي أُسست سنة ١٩٦٧م، وكانت ناطقةً باسم الحزب الديمقراطي الكردستاني.

أُوقفت جريدة (التآخي) سنة ١٩٧٤م بأمر السلطة البعثية بسبب كثرة انتقاداتها لطريقة إدارة المؤسسات، وكبت الحريات، ومطالباتها بحقوق الطبقة المسحوقة.

في يوم ١٩٧٦/٢/١٧م، أمر نائب رئيس الجمهورية (السيد النائب) صدام حسين بإصدار الجريدة لكن بتغيير اسمها من (التآخي) إلى (العراق)، وصدرت لتكون مستقلةً، أو هكذا يفترض أن تكون، لكنَّ لقاءً جمعني بعد سنواتٍ بمراسلة قناة الجزيرة الفضائية القطرية في بغداد المذيعة، والكاتبة فائزة العزي عرفت منها أنَّها كُلفت من إدارة القناة بوضع خلاصةٍ يوميةٍ لأبرز عناوين الصحف الرسمية العراقية فسألتْ عن مرجعية كل صحيفة فجاء جوابٌ أحد المسؤولين في وزارة الثقافة والإعلام يفيد بأنَّ جريدة (الجمهورية) هي جريدة ناطقة باسم الدولة، وجريدة (الثورة) ناطقة باسم حزب البعث، وجريدة (القادسية) ناطقة باسم وزارة الدفاع، وجريدة (بابل) ناطقة باسم الشعب، أما جريدة (العراق) فهي ناطقة باسم الحزب الديمقراطي الكردستاني، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني!

كانت النكتة الشائعة تقول: إنَّ شخصاً مر أمام بناية خُط على واجهتها عبارة (الجبهة الوطنية التقدمية) التي تضم حزب البعث، والحزب الشيوعي، وبعض الكرد، فأكملها بعبارة : لصاحبها حزب البعث!!

تشكلت الجبهة الوطنية التقدمية عام ١٩٧٤م من تحالفٍ بين حزب البعث، والحزب الشيوعي العراقي، والحزب الثوري الكردستاني، وقسمٍ مؤيدٍ للحكومة من الحزب الديمقراطي الكردستاني، ومستقلين متنوعين وكان الأمين العام للجبهة منذ تشكلها عام ١٩٧٦ م وحتى حلها في ٢٠٠٣/٥/١م هو السياسي نعيم حداد (نعيم حميد حداد) الذي ولد في محافظة ذي قار سنة ١٩٣٣ م، وهو عضو في حزب البعث منذ الخمسينيات، ووزير الشباب، ونائب رئيس الوزراء، وأول رئيس للمجلس الوطني (١٩٨٠ـ ١٩٨٣م)، وقد جُرد من جميع مناصبه سنة ١٩٨٦م، وبعد تصفية قيادات الحزب الشيوعي استمرت الجبهة شكلياً حتى حلها بعد تغيير النظام سنة ٢٠٠٣ م.

لم يكتفِ صدام حسين بتسمية جريدة العراق فحسب، بل أولاها عنايته، وكان يخصها بتكريمات كثيرة، فكان الكتاب يتنافسون في الكتابات الإنشائية التملقية طمعاً في العطايا!

قال لي المذيع ريسان مطر: كتبتُ مقالاً في جريدة (العراق) عنوانه (معاني التكريم)، قرأه السيد الرئيس فأعجب به ـ كما نقل ذلك أحد العاملين في المكتب الإعلامي لرئيس الجمهورية ـ فوجَّه إليَّ دعوةً لتكريمي.

يتابع : حدث ذلك يوم ١٩٩١/٨/١٩م.
كان الرئيس فرحاً؛ لحصول انقلابٍ على رئيس الاتحاد السوفيتي ميخائيل غورباتشوف (ربما بسبب موقف الأخير المتوائم مع السياسة الأمريكية) ، ويستعد لعقد اجتماعٍ مهمٍ مع أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث.

[ حصل انقلاب في الإتحاد السوفيتي على غورباتشوف يوم ١٩/ ٨/ ١٩٩١م، وتشكلت لجنة الدولة لحالة الطوارىء التي ضمت ممثلي الحكومة، وأعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي.

إتهم قادة الانقلاب غورباتشوف المولود في روسيا سنة ١٩٣١م بأنَّ أطروحته البيروسترويكا (إعادة البناء) أدت إلى انهيار المستوى المعيشي للسكان، وتشجيع السوق السوداء، ويمكن أن تؤدي إلى تفكك الدولة، لكنَّ الرجل مُنح جائزة نوبل للسلام سنة ١٩٩٠م لدوره في إنهاء الحرب الباردة بين حلف الناتو وحلف وارسو الذي استمر أربعة عقود.

فشل الانقلاب بعد أربعة أيام بعد تدخل بوريس يلتسين رئيس روسيا الاتحادية.

وفي ٢٣/آب وقَّع يلتسين مرسوماً يقضي بوقف نشاط الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، وبعد أربعة أشهر وقَّع اتفاقاً بحل جمهوريات الاتحاد السوفيتي الذي لم يعد كما وصفه الرئيس الأمريكي رونالد ريغن (إمبراطورية الشر) ! ] .

يتابع ريسان مطر بالقول : كنتُ أنتظر دوري في استعلامات القصر الجمهوري مع الصحفي غازي العياش.

أُذن لنا بالدخول فدخلنا.
ما إنْ رآنا السيد الرئيس حتى بش في وجهينا، وداعبنا بقوله : أهلاً بالشباب ! (كان عمر كل من ريسان، والعياش يتجاوز الستين سنة)
أضاف : قال الرئيس : إنَّني أقرأ الصحف يومياً.

وحسب المعلومات الواردة من المكتب الإعلامي لرئيس الجمهورية فإنَّ الرئيس يعتمد على الصحف الرسمية اعتماداً كلياً في التعرف على الأخبار، والتقارير، ووجهات النظر، فهو قارىءٌ جيدٌ للصحف ، ويؤشر على المقالات التي تعجبه بإشاراتٍ معينةٍ بعلامة صح، أو نصف صح، ولكلٍ من العلامتين سعرٌ معينٌ !!

يجري بعدها تكريم الكاتب حسب الإشارة.

يقرأ صدام الصحف اليومية بين الساعتين الثامنة صباحاً، والعاشرة من ضحى كل يومٍ : هذا ما أخبرني به الصحفي السوداني عادل الشتوية نقلاً عن مدير المكتب الإعلامي لرئيس الجمهورية.

كانت عطلة جريدتنا هي يوم الخميس.

افتقد صدام الصحف صباح الجمعة فاتصل بوزير الثقافة والإعلام مستفسراً فأجابه: أنَّه في هذا اليوم تحتجب الصحف؛ فأمر بتغيير يوم العطلة فصارت جريدتا (العراق)، و(الثورة) تصدران يوم الجمعة، وتحتجبان عن الصدور يوم الاثنين، ثمَّ أُضيفت لها عطلة يوم السبت بعد اشتداد الحصار، وشحة الورق، وتحول حجم الجريدة إلى النصف!

يستمر ريسان مطر في سرد حكاية تكريمه، يقول: شكرتُ وغازي العياش الرئيس على اهتمامه بما نكتب، وأردتُ أن أطرح مشكلتي حين فُصلت من حزب البعث أواخر سنة ١٩٨١م، إلا أنَّ غازي العياش لم يترك لي فرصة الكلام، بل راح يثرثر بشأن إمكانياته، وطموحه لإنشاء إمبراطورية صحفية، وأنَّه يستطيع التحكم بمجلة (شتيرن) الألمانية، وأنَّه كذا وكذا والرئيس يصغي، ولا يتكلم!

ولما طال كلام العياش قال الرئيس: بودي أن أجلس معكم مدةً طويلةً لولا أنَّ عندي اجتماعاً مع القيادة.

يواصل ريسان: انتهى اللقاء، وأمر صدام بتكريمي بمبلغ خمسة آلاف دينار عراقي، وكان نصيب غازي العياش الضعف أي عشرة آلاف دينار!
وحين خرجنا لمتُ غازي العياش لأنه أضاع عليَّ بثرثرته فرصةً لا تتكرر لعرض مشكلتي!

اعتادت الجريدة قبل حلول مناسبة ذكرى تأسيسها بثلاثة أيام الإعلان عنها، وتلقي التهاني، وباقات الورود، وصرف مكافأة لكل العاملين مع تكريم عددٍ من المتميزين.

قال لي رئيس التحرير نصر الله الداودي بعد مدةٍ حين تحولت علاقتي به من علاقةٍ رسميةٍ (ميكانيكية) إلى علاقةٍ إنسانيةٍ: إنَّني أستطيع أن أَقيم حفلاً على غرار الحفل الذي أقامته مجلة (ألف باء) في قاعةٍ بفندق سياحي يحضره عددٌ من الشخصيات والمغنين، ولكنّي أُفكِّر بالفقير فربما استطاع بمبلغ المكافأة أن يشتري علبة معجون الطماطم!

على مدى سنوات الاحتفال بذكرى تأسيس الجريدة من شهر شباط سنة ١٩٩٢م، وحتى شهر آذار ٢٠٠٣م حرصت إدارة الجريدة على إسعاد العاملين مادياً بدلاً من الاحتفالات الفارغة، أو منح (الشهادات التقديرية)، أو (الدروع النحاسية)!

كانت الجريدة تصر على إشعار العاملين بالرفاهية في مثل هذه المناسبات، فنجد ـ نحنُ العاملين في الوجبة الليلية ـ حصتنا من الكيكة الكاسرة للحصار الجائر بانتظارنا على يد عامل الخدمات المثابر، والحارس الأمين إبن الإسكندرية المصري جابر محمد فهمي؛ ربما لأنَّ القائمين على الإدارة أقرب إلى فهم احتياجات العاملين، وأهمية الحوافز المادية في تشجيعهم على العمل.

أتذكر قولاً للمترجم والخبير إبراهيم عبد الرزاق يؤكد فيه أنَّ الموظف في مدة الحصار يحتاج إلى كيلوغرام شَكَر(سُكَّر) أكثر من حاجته إلى كتاب شُكر!!
(السيرةُ مستمرةٌ، شكراً لمن صبر معي.. يتبع).

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: صلاة الرجال مع النساء.. باطلة!

عدد المشاهدات = 4325 نشر فضيلة الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب على صفحته الرسمية على …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.