السبت , 20 أبريل 2024
محمد البرغوثي

فجأة.. لِقيتنى عَيِّل ع المعاش!!

= 2048

بقلم الكاتب الصحفى: محمد البرغوثى

لا أعرف أحداً استطاع أن يُعبِّر عن انخطاف العمر، أكثر من شاعر العامية الكبير فؤاد حداد، عندما فوجئ مثل كل عباد الله الموظفين بأنه بلغ سن الإحالة إلى المعاش الذى تتحول فيه الحياة إلى ماضٍ أكثر مما هى حاضر أو مستقبل، وهو إذ يبدأ قصيدته «خيال النور» بقوله: «الدنيا ساحر ما انتهاش».. يعود ليؤكد لنفسه: «الدنيا حاضر ما مضى/ بعترت روحى فى الفضا/ على بال ما يرجع لى الصدى/ لِقيتنى عَيِّل ع المعاش».

“نعم، «عَيِّل على المعاش» هو الإحساس الذى يلازمنى وأنا أستقبل هذه المحطة التى أدركتنى بغتة، محطة سن الستين التى يحرص أغلب البشر على تجاوزها خلسة، وكأنها وصمة لا ينبغى لأحد أن يراهم وهم يحملونها كالوشم أو الخطيئة. والحقيقة أننى قضيت زمناً طويلاً أراقب كثيرين قبلى وهم يقتربون من محطة المعاش، ثم وهم يعبرونها إلى حياة راكدة لا أثر فيها لأى معنى من معانى الحياة، حياة أقرب ما تكون إلى «بروفة» للموت، بدلاً من أن تكون بداية عمر جديد أو مرحلة ممتعة يتخلص فيها الإنسان الموظف من عبودية الوظيفة وصراعاتها المدمرة لأنبل ما فينا من مشاعر”.

“أعرف طبعاً أن معظم المشاعر السلبية التى تطحن غالبية المحالين إلى التقاعد، مصدرها الأساسى هو تراجع الدخل أو انهياره، فى لحظة من العمر تتصاعد فيها مطالب الحياة، وأعرف أن البحث عن عمل جديد فى سن الستين، مذلة موجعة لأناس اكتسبوا خبرات لا يُستهان بها، ولكنهم يواجهون مجتمعاً وحكومات وأصحاب شركات يعاملونهم كما لو كانوا يتطفلون على «عمل» ليس من حقهم، ولكنه – إذا توفر – ينبغى أن يكون من نصيب آخرين فى عمر أولادهم. ولكننى أعرف أيضاً كثيرين وصل بهم قطار العمر إلى سن التقاعد وهم فى أمن تام من الاحتياج، ومع ذلك لا يلبث الواحد منهم أن يتهاوى وينهار تماماً بعد شهور قليلة من إحالته إلى المعاش، وإذا كنت أتعاطف مع من أدركه المعاش دون أن يؤمِّن نفسه أو أولاده من غائلة الاحتياج، وأتفهم الحسرات التى تفتك بكثيرين غافلهم الزمن وألقى بهم عن ظهره فى قسوة مهينة، فإن التعاطف والتفهم يعودان إلى ما نعرفه جميعاً من أن «دولاب العمل» فى مصر – وربما فى غيرها – لا يدور عادة بالمواهب والكفاءات كما يقال دائماً، ولا يمنح عطاياه أو أمانه المادى إلا لمن هم – فى الغالب – الأكثر اغتيالاً للمواهب والكفاءات!”.

“هؤلاء الذين اغتالتهم الإدارات الفاسدة والفاسقة، وأدركهم سن المعاش وهم ما زالوا فى أشد الاحتياج المادى إلى العمل وأشد الاحتياج النفسى إلى التحقق، لا شىء يمكن أن يواسيهم أو يخفف من آثار صدمتهم غير أن يشملهم الله برحمته، ولا يمكن أبداً لهؤلاء أن يجدوا حلاً أو تعزية فى مئات «الفيديوهات» والكتب التافهة التى امتلأت بنصائح ودورات تدريبية عن «الحياة بعد الستين».. لأن كل هذه النصائح والدورات تقوم على افتراض غبى بأن فرص العمل ملقاة على الأرصفة لمن يريد أن يلتقطها.. ولأن هؤلاء «المدربين» فى حاجة إلى معرفة أن معظم الحسرات التى تنشب مخالبها فى قلوب «المحالين إلى التقاعد»، مصدرها الأساسى هو الاستغناء عنهم وهم فى قمة العطاء وفى أوج الصلاحية للعمل والإنتاج والإحساس بالجدارة”.

“إن هؤلاء «المدربين» فى حاجة إلى التعلم والعبرة من مقارنة البشر بين الريف والحضر، وبين العمل الحر والوظيفة. فى الريف والعمل الحر يصل الإنسان إلى سن السبعين والثمانين وهو قابض على جدوى حياته لأنه يعمل، وفى الريف يصل أجدادنا وآباؤنا إلى سن السبعين والثمانين فرحين بجدارتهم وواثقين من مبرر وجودهم لأنهم لا يكفون عن العمل والإنتاج. وفى الحضر والوظيفة يتحول المجتمع إلى صاحب مأدبة لئيم يُعامل المحالين للتقاعد وكأنهم متطفلون لا حق لهم فى العمل أو الحياة، ولهذا نلاحظ أن إنسان الريف والعمل الحر يعبر الستين والسبعين وهو يتمتع بنضارة الوجه وصلابة الروح والجسد، بينما نلاحظ إنسان الحضر والوظيفة وهو يتهاوى بأقصى سرعة لأنه تحول إلى شخص فائض عن الحاجة بمجرد بلوغه سن الستين”.

“فى مقابل هؤلاء الذين يستحقون رحمة الله، رأيت آخرين كانوا فى قمة الوهج والاختيال عندما ارتطموا بصخرة التقاعد، ولم أشعر تجاههم بأدنى تعاطف وهم ينطفئون بغتة، وينصرف عنهم فوراً، وخلال ساعات فقط، الإمَّعَات والمنافقون الذين كانوا لا يفارقونهم لحظة واحدة، وقد تصادف أنى رأيت بعض هؤلاء الذين زال عنهم المنصب، بعد أسابيع أو شهور قليلة من الاستغناء عنهم، فإذا بكل منهم وقد كبر فى العمر عشرين عاماً دفعة واحدة. ولن أنسى أبداً أحدهم عندما التقيته صدفة، فراح يشكو لى فى توجع أليم ما لقيه من غدر أقرب الناس إليه وهو فى منصبه الرفيع”.

“ولكننى مع كل هذا الوعى بحسرات وتقلبات ومخاوف هذه اللحظة، أدركتنى محطة سن الستين وأنا غافل عنها أيضاً، وأدهشنى أن أصل إليها وأنا فى قمة «المعيلة»، إذا جاز التعبير، ولكنها – حتى الآن – لم تترك بداخلى أدنى إحساس مُقبض، ربما لأنها فاجأتنى وأنا لا أشغل منصباً سيزول عنى، وربما لأنى أدركتها وأنا أكتب رواية جديدة وأُقلَّبُ فى عشرات الكتب والمراجع بحثاً عن حالة الفلاح والقرية المصرية منذ الفراعنة وحتى اللحظة الراهنة.. وربما لأن قلبى ما زال عامراً بصبوات أو نزوات لا أريد لها أن تخبو أو تنطفئ، وربما لأنى أيقنت منذ زمن طويل أن «حضن العائلة» هو أحنّ ملاذ من حسرات التقاعد، وأن الإنسان عندما ينخلع من محيطه العائلى لأى سبب، يتحول إلى غصن مقطوع من شجرة.. وكما نعرف، فإن الأغصان المقطوعة سرعان ما تصبح حطباً، أو فى أفضل الأحوال مجرد «شومة» شديدة البطش”.

“وصحيح أن هذه اللحظة قد أدركتنى ونحن فى زمن موبوء، تتراكم فيه كآبة الموت والمرض والمعاناة وتحاصر أيامنا بأنباء موجعة.. وصحيح أنها أدركتنى بعد انتظار طويل لصباحات أصبحت أكثر بُعداً، ولكننى فى النهاية وطَّنتُ نفسى منذ عقود على قبول نتائج اختياراتى أياً كانت، وعلى الفرح بالحياة فى أبسط شروطها مثلما يفرح الجائع برغيف ساخن، والأهم من ذلك أنى تعلمت من خبرات آخرين روعة السعى خلف الآمال دون اكتراث بتحققها أو عدم تحققها.. وأن السعادة فى الحقيقة ليست فى الوصول إلى الهدف، ولكنها دائماً فى مشقة وثراء الرحلة ذاتها”.

—————————————————-

  • المقال منشور بصحيفة الوطن المصرية.

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: صلاة الرجال مع النساء.. باطلة!

عدد المشاهدات = 4472 نشر فضيلة الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب على صفحته الرسمية على …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.