قاعة الانتظار ليست مجرد جدرانٍ صامتة، ولا مقاعد مُصفوفة ببرود، إنها مكان يختزن كل التناقضات الإنسانية. فيها يلتقي الصبر مع الضجر، والرجاء مع الخوف، والوقت مع بطئه القاتل. يجلس المرضى في صفوفٍ متباعدة، تتشابك عيونهم أحيانًا في صمت، ثم تعود لتسقط على الأرض أو على ساعةٍ معلّقة في الجدار، كأنها جلّادة تُطيل العذاب بثوانٍ ثقيلة.
في تلك اللحظات، يصبح الانتظار اختبارًا حقيقيًا للنفس. دقيقة في الخارج تعادل ساعة، والهمس البسيط يتحول إلى إزعاج، والباب المغلق أمامهم يبدو كأنه يفصل بين عالمين: عالم الألم المعلَّق في الخارج، وعالم الأمل الموعود في الداخل. كل واحد منهم يردد في داخله: “متى يحين دوري؟ متى ينطق الممرّض باسمي؟” كأن الاسم المنطوق على لسانه سيكون مفتاح الخلاص.
لكن المفارقة العجيبة أن من يحظى بالدخول، سرعان ما يتناسى أن وراءه عشرات العيون المُعلقة بالباب. يجلس مطمئنًا أمام الطبيب، يفيض بالكلمات، يكرر الأوجاع والتفاصيل، يستأثر بالوقت كأنه وحده من يستحق الطمأنينة. فهو لا يكتفي بجوابٍ واحد، بل يبحث عن تأكيدٍ ثانٍ وثالث، ولا يشبع من شعور الأمان الذي يغمره حين يسمع تفسيرًا أو وعدًا بالعلاج. فينسى أن في الخارج قلوبًا أخرى تنهشها الأسئلة ذاتها، وأن الوقت الذي يطلبه لنفسه يُقتطع من أنفاس الآخرين.
وهنا يتجلى وجه الحياة بأكملها.
فنحن جميعًا في “قاعة انتظار” كبرى. ننتظر فرصةً، أو نجاحًا، أو شفاءً، أو حتى كلمة اعتذار. كل منا يرى أن دوره قد تأخر، وأن الوقت ضاع من عمره في صبرٍ لا يُثمر. بينما من يدخل إلى دائرة ما كان يتمناه، يستغرق فيها، يمدّ يديه ليأخذ أكثر مما يستحق، وكأنه ينسى أولئك الذين ينتظرون خارج الساحة، متعطشين لما كان هو يتعطش إليه.
قاعة الانتظار درس خفيّ: أن الزمن واحد للجميع، لكنه يُقاس بمقدار ما نحمله في قلوبنا من قلقٍ أو طمأنينة. المنتظر في الخارج يحسبه جمرًا على صدره، والداخل يحسبه نسيمًا يتمنى لو يطول. والإنسان الحكيم هو من يتذكر وهو في الداخل، أن الخارج يعجُّ بوجوهٍ تتطلع إليه، تمامًا كما كان يتطلع هو قبل لحظات.
فالانتظار ليس عذابًا فقط، بل مرآة تُرينا كيف يتبدل إحساسنا بالزمن، وكيف يختلف منظورنا حين نكون نحن في الداخل أو الخارج. وكأن الحياة كلها صفوفٌ على مقاعد متلاصقة، وبابٌ واحدٌ نترقب أن يُفتح. والعدل الحقيقي ليس أن يطول دورك أو يقصر، بل أن تدرك وأنت في الداخل: أنّ وقتك ليس لك وحدك، وأن وراء الباب من يستحق أن…..
✍🏻✍🏻
#بألمي
نبيلة حسن