بقلم الأستاذ الدكتور / عوض الغباري
غادة مأمون أديبة جادة مهتمة بالقيم الأخلاقية وقضايا المرأة . وهى حريصة على حضور المحافل الأدبية والثقافية التي تصقل رؤيتها الأدبية وقد تجلت في مجموعتها القصصية بعنوان: “حكاية العمر ” كما اتضحت أيضا في روايتها بعنوان:”عندما يتحدث الصمت ” .
وتهدى الكاتبة مجموعة حكاية العمر بكلمات شعرية” رومانسية رقيقة صوفية معبرة عن الاتحاد بين الحب والمحبوب بقولها :
إلى من علَّمني الحب
ووضع قلبى
على أعتاب السعادة
وعلمه كيف ينطق حروفا
يغزلها بأوتار المشاعر
وينسجها بعبير الورود
أهدى إليك
كل كلمة عذبة رقراقة
يشدو بها الوجدان فرحا
إليك أنت : “يا أنا “
وهذا الأسلوب الجميل ينضح بما تنطوي عليه شخصية “غادة مأمون” من رقة عاطفية وأحاسيس تنبع من صدق في التعبير عن الروح والوجدان.
يتجلى ذلك أيضًا في عتبة من عتبات المجموعة القصصية صَدرَتْها بقول جلال الدين الرومى:
“الروح التى فيها شئ من روحك تعرف كيف تخاطبك بلا كلمات “ .
إنها مشاعر الروح المتعمقة في الحب تكفيها الإشارة إذ يعجز المقال عن وصف الحال فى مكاشفات التصوف. وكذلك تشير إلى قول جلال الدين الرومى: “قد يأتى أحدهم خفيفا يطفو بجانبك فى كل هذا الغرق كجذع شجرة يصلح للنجاة ” وهنا تعبير عن الذات المأزومة فى سعيها للنجاة مما يحيط بها من عوامل الإحباط وقسوة الواقع، خاصة ما نراه في الخط الدرامى الذى يميز هذه المجموعة في انتصارها للمرأة المظلومة، وحنوها على تعاستها .
وقصة “حكاية العمر” سرد ذاتی لشخصية القصة وقد حلمت بلقاء ناقد مشهور أحبته لكن المرض داهمه وفرق الموت بينهما، فجاءت قصة “رحلة العمر” التي كتبتها استكمالا لقصة لم يكملها حبيبها، وكأنها تقضى هذه الرحلة وقد لازمها الحزن والاستبصار لمواطن الحركة الأدبية والثقافية الأصيلة التي تستولى عليها، وتساهم برأيها الصادق فيها، وتبتعد عن السلبى منها مما لا يتوافق مع استقامة شخصيتها و نقاء سريرتها .
كانت نهاية القصة حزينة ، وفيها تقول الكاتبة :
” فى ليلة شتوية طويلة كنت أقرأ أحدث روايات حبيبي ” حكاية العمر ” والتي كتب فيها جزءا كبيرا من حكايتنا … جاءنى اتصال من حسناء وكانت تبكى .. وقع الهاتف من بين يدى”(). إنها النهاية الحزينة الأليمة التي جاءت مفارقة لسعادة الحب، وصديقتها التي عرَّفَّتْها بحبيبها ھى التي أخبرتها بوفاته.
وفرحة اللقاء بالسعادة يعقبها ألم أيضا في قصة “سليم ” حيث تتعلق الساردة بهذا الطفل الذي ملك عليها قلبها، ولكنها سرعان ما افتقد ته عندما غاب عنها .
لذلك نرى قصص غادة مأمون المسرودة بضمير المتكلم کأنها تريد أن تجعل قصصها هي ذاتها التى تخاطبها حين السعادة والشقاء.
تنهى قصة سليم بقولها : “سألت كل من يعرف والده، وعلمت أنه تخلى عن حضانة سليم إلى والدته التي عادت من الخارج وأخذته ليقيم معها، شعرت بطعنة كبيرة اخترقت سويداء قلبى”().
و تبكى الساردة حرقة على الحبيبة الحزينة لغیاب حبيبها الذى يملأ قلبها فرحا، وتستمر تيمة المفارقة بين عذاب الحب وعذوبته في قصة “حضن وسادتى ” فتسعد الساردة لعودة الحبيب إلى حبيبته بينما لا تجد إلا حضن وسادتها التي تحتويها دون زوجها غليظ القلب().
وقصص المجموعة يجمعها نسق إنساني جميل ، وصياغة سردية تلامس الواقع ، معبرة عن رؤى الكاتبة في الواقع الذى تصور به أحداث القصة والشخصيات .
تجلى ذلك في قصة ” السجان ” التي تصوِّر وجهين لداعية إسلامى أحدهما سمح والآخر مستبد() ظهر عندما أراد الزواج ، واشترط أن يكون أمره مطلقا مما عارضته الفتاة التي أراد الزواج منها، وكأننا نرى في موقفها قناعات الكاتبة برفض القهر الذى تواجهه من الرجل.
وعبر عنوان القصة، وهو “السجان” عن القيود التي أرادت شخصية القصة أن تفرضها على المرأة مناقضة لما أمر به الدين من حسن معاملتها.
وفى قصة “بقايا حلم” تتمنى الساردة أن تنعم بالحب فإذا بزوجها يعاملها بقسوة مما يعبر عن المفارقة التي يثيرها الصراع الكامن في شخصية الكاتبة بين حرب الواقع وأزمته فى مواجهة السلام النفسى المفقود (). وتتنوع قصص المجموعة على هذا النسق الذي يلامس بين الحقيقة والخيال فى إطار رومانسي إنساني .
وقصة “أمل ” تدفع إلى الأمل فى الحياة مهما ضاقت السبل مستعينة بقوله تعالى : ” كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا ا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ” البقرة 216 .
وهنا تبدو قصص المجموعة كأنها مشاهد مما نراه واقعًا.
والأم هي بوصلة الاتجاه وروح الحياة في قصة ” البوصلة”، والمعاناة من الزواج التعيس تيمة هذه القصة وهي مثل قصص المجموعة فى قرب الخيال من الواقع().
وافتقاد الحب الذى يحقق السعادة يسيطر على قصص المجموعة التي تبلغ خمسا وعشرين قصة .
وقصة “الشبح” حلم بمناجاة البحر على ذكرى الحبيب الغائب().
وصحبة الكتب والصديقات جزء من عالم القصة في أدب غادة مأمون .
ونجد صورا للنماذج البشرية في القصص مثل العجوز المتصابي فى قصة “حبات الكرز”() .
والذي يغدر بالحبيب في قصة “النظرة الأخيرة “() وقصة “فستان الزفاف”() وقصة “الثعلب”(). ونجد دلالة نفسية فلسفية في قصة ” القاع ” الذي صورته قبرا للحب الضائع إذ “ضاعت الكلمات، تبخرت، صارت حلما لم يعد له وجود“.() والقصص حافلة بحب الساردة للطبيعة ملاذا للتأمل والاستمتاع بالجمال عوضا عن مصاعب الحياة ، مثل قصة “صديقتي”، وهى شجرة تجعل “الزمن طفلا ، والحياة بلون الورود”(). ولكن مذابح الأشجار تقتلع هذه الشجرة الصديقة التي تعيد “ضحكة الصبا وأريج البراءة وبهاء الربيع .“()
وهذا ترسيخ للنزعة الرومانسية التى تتسم بها قصص المجموعة . والغالب في القصص سرد الأنثى ، لكن يأتي السارد ذكرا في بعض القصص مثل ” وجه السعد ” أو كما نقول “وش السعد” حيث يضطر رب الأسرة على المعاش أن يحول سيارته إلى تاكسى لمواجهة أعباء الحياة فيجد طفلة تركتها راكبة معه ويضطر لتبنيها فكانت فالا حسنًا إذ تحسنت أحواله، وقد سماها “وردة” حوَّلت صحراء الحياة إلى بساتين. ()
ويأتي الحوار في قصة “هدية السماء” مفتاحا لها، إذ يتمنى السارد الزواج من بطلة القصة فتاة أحلامه المحافظة التي لم تستجب له، ففوجئ وهو يشكو همه لصديقه أنه أخوها الذي وافق على زواجها منه().
وقصة “فنجان قهوة ” تحكى حب شاب متعلم يعمل في قهوة لسيدة ثرية ترتاد المقهى وتفاجئه بالوداع لسفرها مع زوجها(). ويلعب المكان دورا بارزا في البناء القصصى لغادة مأمون في مجموعتها القصصية “حكاية العمر”.
يتمثل ذلك في البيت القديم وذكريات الطفولة والأب والأم، مثل قصة “فطير مشلتت”() ، وفي الأماكن التي يلتقى فيها المحبون وتثير الأشواق إليهم عند الفراق مثل قصة “ميلاد جديد”().
ومن المواقف الاجتماعية حسد الصديقة لصديقتها في قصة “الضحية”. () وقضیة تزويج البنات لكبار السن الأثرياء مثل قصة: “سعاد فرخة”() ويتجلى الرفق بالحيوان في قصة: “سر الغائب”(). ونرى قصة جميلة تصور براءة الطفولة عنوانها: “عصابة بائع الفول”().
وتقطر قصة “دار هالة” أسى إنسانيا حزينا لوفاة شخصية القصة “هالة” وقد قامت برعاية أختها الصغيرة التي أقامت مستوصفا صحيا ودارا للأيتام باسمها تكريما لها().
وقصة “هدية أمى “هي خاتمة المجموعة مصورة تشجيع الأخت الكبيرة لأختها الصغيرة عن طريق وعد في الحلم بهدية من أمها الراحلة، كما تعالج قضية حرمان المرأة من الميراث .()
إن “حكاية العمر” توليفة من قصص تخاطب الروح والعقل والوجدان للكاتبة المتميزة غادة مأمون التي عبرت عن شخصيتها الأصيلة من خلال قصصها الجميلة.
الهوامش: