حياة كلّ إنسان سلسلة من المحطات ، وكلّ مرحلة هي وقفة ،قد تطول أو تقصر في محطة قد يغادرها إلى أخرى ، إذا كتب الله لصاحبها عمرا مديدا ، ، مهما أطال المكوث فيها، وقد يحدث وقوفه في محطّة من المحطّات منعطفا يغيّر مسارا في حياته، يدفع صاحبه إلى الأمام ضمن انعطافة جديدة، أو يعيده إلى الوراء،وبين حين وآخر يطيب للبعض أن يقف متأمّلا، ومراجعا، ما مر به، لتقييم أداءه بتلك المرحلة، وإعادة هيكلة المشاريع الحياتية، ومراجعة الذات، والبحث عن طرق جديدة يسلكها ،لتعديل المسارات،لوصول أسرع إلى الهدف،وتبديل الخطط، وتطويرها، وإعادة صياغتها.
دارت في رأسي هذه الأفكار، خلال حضوري مبادرة أقيمت في "جاليري الأوبرا بدار الأوبرا السلطانية " جعل منظّمها ، وصاحب فكرتها، الشاب "فهمي المعولي" الذي درس الهندسة الميكانيكية في بريطانيا "السوشيال ميديا" "أنظمة التواصل الاجتماعي" منطلقا لمراجعة كلّ مشارك من المشاركين الثمانية تجاربهم المهنية ، وتقوم الفكرة ، على اختيار ثماني تجارب تكون ، بلاشكّ ، ناجحة، وتمثّل نموذجا للإقتداء بها بين الشباب، ليتعرّفوا على سرّ ذلك النجاح ، فيتحدّث أصحابها عن ثماني محطّات مهمّة ، استنادا إلى صور فوتوغرافيّة ،أو مقاطع فيديو، من تلك المحطّات، والتجارب،والمشاريع، تعرض على شاشة كبيرة، ويقوم المشاركون بالتعليق على تلك الصور ،والمقاطع ، خلال ثماني دقائق فقط ، وقد حملت المبادرة التي أقيمت للمرّة الأولى في ابريل2014 بالمكان نفسه، عنوان"إنستا 8"، وهو عنوان مستلّ من اسم "الانستجرام "، في إشارة إلى أهميّة الصورة في السرد البصري، واختزالها للكثير من الكلام، من منطلق إنّ"الصورة أقوى من ألف كلمة"، وللإستفادة من الانستجرام ،ومنصّات التواصل الاجتماعي، في التطوير الذاتي، وجعلها مؤثّرة في المجتمع ، وإخراجها من العوالم الافتراضيّة، إلى الواقع .
وقبل بدء الفعاليّة التي تستهدف جمهور الشباب بالدرجة الأولى، رغم أنّ الكثير من شباب القلب، والروح،وأحسب أنني منهم، كانوا من الحاضرين، رأيت أنّ المشاركين وضعوا في زاوية ضيّقة،بين فكّي الوقت: فكيف يستطيع كلّ مشارك أن يختصر حياته ، أو يتحدّث عن مشروعه ، خلال دقائق قليلة!؟
هنا تذكّرت قصيدة لنزار قباني يفتتحها بقوله :
لا تطلبي مني حساب حياتي
ان الحديث يطول يا مولاتي!
كل العصور أنا بها … فكأنّما
عمري ملايين من السنوات
فالحديث عن التجارب الحياتيّة لا يتوقّف عند حدّ معين، وغالبا ما يسترسل المتحدّث ، ويجرّ السامع إلى متاهات في ذاكرته ، فحين يُحدّد المتكلّم بدقائق ، فذلك يشبه قول الشاعر:
ألقاه في اليمّ مكتوفا وقال له:
إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء
وقد شبّهت ذلك بحروف "التغريدات التويتريّة" الـ140 حرفا ، والتي تجعلني في الكثير من الأحيان أنفق وقتا ،وجهدا ، قد يكونا أحيانا أكثر عدّة مرّات من الوقت الذي يستغرقه اقتناص فكرة "التغريدة"، ولذلك سبق إقامة الفعالية تحضيرات ، ولقاء للمشاركين، قبل ليلة من العرض ، كما علمت، لعمل تجربة عرض أولية "بروفة" ، وقد سهّل وجود الصور ، ومقاطع الفيديو عليهم الحديث عن محطّات بارزة من حياتهم، ومشاريعهم ، ونتائجها. وكانت تجربة ثريّة جعلتني، وربّما الكثير ممن حضر ، أعود إلى ألبوم صوري، ونفسي، مراجعا انعطافاتها، لاستخلاص الدروس ،والعبر، فكانت محرّضا على ذلك ، إلا أن الذي كان غريبا على أذني، وأذن المهتمين ، والحريصين على اللغة العربية،وسلامتها ، وعلومها، وآدابها ، الاستماع إلى مقدم البرنامج "فهمي المعولي" الذي يمتلك خفّة ، ورشاقة ،وروحا مرحة ،وقدرة على جذب الجمهور، وبعض الضيوف، وهم يقصون سير حياتهم باللغة الانجليزية بين جمهور غالبية حضوره من أبناء العربية، خصوصا أنه يقام في دولة عربيّة تعتزّ بتاريخها، وجذورها الحضارية، وهو أمر تكرّر في فعاليّات سابقة، ولا يفوتني أن أحيي من خرج على السرب، وحرص على عرض تجربته بالعربية، وكان قادرا على التحدث بأكثر من لغة أجنبية ، فهل أن لغة القرآن، والحضارة التي "يكمن الدرّ في أعماقها"، عاجزة عن التعبير عن تلك التجارب؟، وهل أن جمهور الشباب المستهدف في هذه الفعاليّة، أدار ظهره للغة!؟ أم أنّ انغماس البعض بمشاريعهم أنساهم المحطّة الأهم: اللغة الأمّ!!؟