لا زالت الكلمات تتقن فنّ التخفّي، ترتدي عباءة الليل، وتتسلل خفية إلى زوايا الصمت، كما لو أنها تخشى الضوء، تخشى أن تقع في قبضة العيون فتنكشف هشاشتها.
عنها تلك التي تقول دائماً “أنا بخير”، ف تبدو العبارة كنغمة نشاز تتكسر بين الضلوع، لا يسمعها أحد، لغة لا يفك شفرتها مخلوق.
تصرخ… لكن بصوتٍ مكتوم، لا يُصغي إليه سوى صدى الحائط البارد، لا أحد يلاحظ ذاك الشرخ في نظراتها، ولا الرجفة الخافتة التي ترتجف في أطراف أصابعها كلما ابتسمت، تلك التي اعتادت أن تضع الألم في جيبها الأيسر، قريباً من قلبها… وتمضي.
تضع ابتسامة زائفة على ملامحها كما يفعل الممثل في مسرح العبث، ليخدع الجميع، ليست بطولة منه، بل وسيلة نجاة، وليست موهبة، بل درعٌ خفيّ يحول بينه وبين نظرات الشفقة، وبين أسئلة لا يملك لها أجوبة، لإنه سيكون انكشاف… لا يحتمله.
هي تعلمتْ أن تبحث عن الوجع في أعين الآخرين، أن تُترجم الحزن المختبئ خلف ضحكهم العالي، أن تقرأ ما وراء السطور، لأنها ببساطة… سطرٌ لا يُقرأ.
صار الحزن صديقها الوفي، لا يتركها، يتكئ على كتفها ككل مساء، ويتبادلون الحكي لبعضهم البعض ولكن بلا صوت.
وأما عنها؟
ف هي أصبحتُ ظلًا… لا جسد لها، وجودها خافت، حد التلاشي..
وحين يسألها أحدهم: “كيف حالك؟” فتختنق بالإجابة وتتلعثم بـ فقط”بخير”، رغم أنها مكسورة في الداخل… كزجاج سقط من علو شاهق..
ربما أحرقتها محاولات التخفي، أو ربما… أحرقت نفسها وهي تستعرض حروقها بثوبٍ أبيض ناصع.
لا أحد يقترب!
أكانوا خائفين منّها؟ أم أنها من دفعهم بعيداً؟
في داخلها مدينة كاملة من الصراخ، من الهمس، من الارتجاف… مدينةٌ مغلقة لا تُفتح إلا لنفسها في منتصف الليل، ولا تملك مفاتيح الخروج منها.
صارت بارعةً في التمثيل، لا لأنها تحب الكذب، بل لأن الحقيقة ثقيلة… دامية.
من يراها يظنها جبلاً، لا يدري أنها بقايا إنسان، تماثيل شمع تذوب بصمت في عزلتها كل مساء.
هي الظل الذي يضحك في النهار… ويبكي في الليل…
هي الكلمة التي لا تُقال، والشعور الذي لا يُفهم…
ولا أحد يعلم بعد…
هل هي تختبيء خوفاً من أن يُكشف أمرها؟
أم لأنها إن كُشفت، لن تجد يداً تمسك بها؟
الأمان… تلك الكلمة التي تشبه الحلم، لم تذقه قط، إلا في خيالعا، وفي تلك اللحظات القصيرة، قبل أن تغفو.
هي بخير؟
لا، ليست كذلك.
لكنها تُجيد الكذب… على الجميع، وحتى على نفسها.