الآن وأنا في القطار، رأيت مشهدًا يجسد الشخصية المصرية الحقيقية في أبهى صورها.
سيدةٌ مسلمة تحمل طفلها المريض الذي يتحرك بقلقٍ واضحٍ على يديها، وبجوارها سيدةٌ مسيحية قامت من مقعدها فورًا لتحمل الطفل عنها، تُلاطفه وتُهدهده وتُخرج من حقيبتها بعض الحلوى لتقدّمها له دون أن تُطلَب منها المساعدة.
لم يكن الموقف عابرًا، بل لوحة إنسانية خالدة؛ إذ ذابت الفوارق بينهما في لحظة، ليتجلّى اسمٌ واحدٌ فقط: “الإنسان المصري ، بطبعه الأصيل، وطيبته الفطرية التي لا تميّز بين مسلمٍ ومسيحي.
هذا المشهد، في بساطته، يُعيدنا إلى أصل الفكرة:
أن الأخلاق النقية لا تُصنع، بل تُولد فينا فطرةً، وتُهذّب بالتربية والإيمان.
– الأخلاق النقية… منبعها الفطرة
الأخلاق النقية لا تحتاج إلى تعليمٍ مزيّف أو مظهرٍ متصنّع. هي انعكاسٌ لما يسكُن في أعماق الإنسان من طيبةٍ وصفاء.
قال الرافعي يومًا:
“ليس الرقي ما تلبسه أو ما تقتنيه، بل ما تحمله نفسك من أدبٍ وخلق.”
فالأخلاق الحقيقية لا تُظهرها الكاميرات، ولا تتطلب جمهورًا لتصفّق لها. إنها الفعل العفوي، النابع من ضميرٍ حيٍّ وشعورٍ إنساني.
– وفي جوهر الدين، تتجلّى الأخلاق كغايةٍ للرسالات لا كوسيلةٍ اجتماعية؛ فقد قال النبي صلي الله عليه وسلم:
“إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق.”
فمنبع الأخلاق في الإسلام والمسيحية والإنسانية واحد: الرحمة، والعطاء، والصدق، والعدل.
– الأخلاق المصنّعة… قناع الرقي الزائف
على الجانب الآخر، هناك من يصطنع الرقيّ كما يُصطنع العطر الرخيص ، الذي لا يدوم . يتحدث عن الفضيلة، ويُكثر من الشعارات، لكنه يفتقد التطبيق.
هنا يصبح “الرقي” واجهةً زجاجية هشّة، لا تُخفي وراءها سوى حب الظهور أو السعي للإعجاب.
و في رأيي أن تعريف الرقي والإشارة إليه بأنه رقي في حد ذاته ليس برقي، إنما تكلف واضح للعيان.”
وهنا يلتقي المعنى مع قول أوسكار وايلد:
“البساطة هي التعقيد الذي تم حله.”
فمن يتكلّف الأخلاق لا يملكها، ومن يتصنّع التهذيب يفقد صدقه. الرقيّ الحقّ هو أن تكون كما أنت، نقيًّا دون تزييف.
– الأخلاق بين علم النفس والمجتمع
من الناحية النفسية، يعيش صاحب الأخلاق النقية في انسجامٍ داخلي، بينما يعيش المُتصنع في صراعٍ بين ما يُظهره وما يُخفيه.
أما مجتمعيًا، فانتشار الأخلاق المصنّعة يؤدي إلى هشاشة العلاقات؛ لأن الثقة تُبنى على الصدق لا على التمثيل.
المجتمع الذي تُدار فيه العلاقات بالمظاهر يصبح فقيرًا روحيًا مهما بلغت رفاهيته المادية ، وهكذا العلاقات الاسرية والزوجية التي تنشأ على الاخلاق المصتنعة الزائفه لا تستمر واذا استمرت لا تكون سويه ابدا .
– أما عن المنظور الثقافي والفلسفي :
تناول كونفوشيوس هذا المفهوم قائلًا:
“الرجل النبيل يخجل من أن تتفوق أقواله على أفعاله.”
بينما كتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري في رواية “الأمير الصغير” : “ما هو جوهري لا يُرى بالعين.”
وهكذا تتلاقى الفلسفة والأدب في تأكيد حقيقة واحدة:
أن الأخلاق الحقيقية هي التي تُمارس، لا التي تُعلن.
– في نهاية الأمر
ذلك المشهد في القطار لم يكن مجرد لحظة عابرة، بل درسًا في الإنسانية النقية.
لم تتحدث السيدتان عن الأخلاق، بل جسّدتاها فعلًا.
في زمنٍ يتسابق فيه الناس لإظهار ما يملكون، يظل الجمال الحقيقي فيمن يُظهر ما يكون فعلاً وسريرةً .
إن مصر بخيرٍ ما دامت تلك الفطرة حيةً في قلوب أبنائها،
فهي التي تجمع، وتُداوي، وتُعلّم العالم أن الرقيّ لا يُقال بل يُفعل.
حفظ الله مصر ارضا وشعبا وجيشاً وازهرا.
———————————
* كاتب صحفي … جريدة حياتي اليوم
حياتي اليوم صحيفة إلكترونية يومية
