كانت تظن أن “بعدين” صندوق سري تودع فيه الأمنيات المؤجلة، والضحكات الناقصة، والمكالمات التي لم تُجرَ، كانت تعتقد أن الوقت سخيّ، وأن الغد دائماً يفتح ذراعيه كأمٍّ تغفر كل تأخير، لكن “طلع مفيش بعدين”.
كانت تظن أن هناك دوماً متسعاً، أن الحياة تُمهل، أن الأحبة ينتظرون كما ينتظرها قلبها كل مساء، لكنها ما تضع بالحُسبان أن الريح حين تهب وتطوي الوجوه من أمامنا كما تُطوى الصور في دفتر قديم.
كان في قلبها يقينٌ مشاغب أن هناك غداً، يوماً جديداً، فرصة أخرى لأن تقول “أنا هنا”، أن تحتضنهم أكثر، تسمع أكثر، تحبّ أكثر… لكنها نسيت أن الحياة لا تُمهل المُنشغلين، ولا تُراعي من قالوا “خليها بعدين” وفي كل مرة، كان هناك “شيء”… حدثٌ كالسهم يقتنص اللحظة، أو انشغالٌ كالسُحب يحجب الضوء. كانت تؤجل، وكانوا يرحلون، كأن الحياة تكتب لهم نهايات مباغتة خارج النص.
وعندما قالت “طلع مفيش بعدين”، كانت عيناها تتهجّيان الفراغ، كأنه تبصر الغياب لأول مرة لا كفقد، بل كعقوبة التأجيل، صوتها كان هشّاً كأغنية قديمة لم تكتمل، تتسرب منها الكلمات باكية، لكن، في وجعها نور، في انكسارها نهوض، في ألمها ولادة جديدة لمعنى الوقت، فهمت، وإن كان الوقت متأخراً، أن اللحظة هي بيتُها، أن الآن هو الوطن، أن الأحبة لا يُؤجّلون، وأن القلب حين يخفق لأحدهم يجب أن يُسمَع صداه حالًا، لا لاحقًا.
من يومها، صارت تكتب رسائل قصيرة من نوع خاص، ليست نصوصاً، بل حضوراً أكثر، صارت توزع وقتها كما تُوزَّع قبلة على جبين مُشتاق.
وصارت تمشي ببطء، تُنصت، وتربت على الأرواح التي تحبها، خشية أن تسرقها الأيام كما فعلت من قبل، لكنها قررت أن تجعل من كل”الآن” الآن.. لأن بعدين لا يُنسى.