الجمعة , 29 مارس 2024

“رحيل”..قصة قصيرة للكاتبة علياء هيكل

= 2588

لم يدرك أهل القرية أنه وبرحيل سعاد إبنة الشيخ حلمي رحمة الله عليه، ومغادرتها البلدة، سوف يعايشون كل هذا الشعور من الغربة والوحشة، وأن آلم الذنب سيبقى حياً داخلهم ينهش قلوبهم..لم يدركوا كيف أن بقاءها كان بقاء لحريتهم وطَمأنينتهم وسلامهم الروحي..

وهل رحلت هي إلا عندما أجبروها هم على ذلك.. حين أجمعوا على أن بقاءها وحيدة بمفردها ببيت أبيها بلا رجل، أمر غير مقبول، فقرروا تزويجها من أحد أبناء القرية الذي لم يكمل حتى دراسته، لكنه كان من وجهة نظرهم (راجل كسيب)، رفضته.. كانت تتطلع لاستكمال دراستها أولاً، ودخول الجامعة لتحقيق أمنية أبيها الذي عاش يحلم بأن يراها طبيبة ماهرة يعرفها القاصي والداني، فغادرها وترك لها هذا الحلم لتُحيله هي إلى واقع..

ولما أصرت على رفض الزواج وتمسكت بحُلمها، اعتبره أهالي القرية تحدياً صارخاً لفضائلهم وتمرداً صريحاً على عاداتهم.. فآتى إليها بعض من نسوتهم ليُعلِموها “أن لا مكان لها بينهم”.. وأمهلوها يومان لتغادر القرية.. خفن منها على أبنائهن وعلى أزواجهن أيضاً.. وقد بدأ بالفعل بعضهم بالتودد إليها واستغلال وحدتها.. يالسخرية الحياة، ايخشى الوحش الضاري على نفسه من فريسته..! أتخاف النار من أوارق الشجر..!

بقيت سعاد حبيسة بيتها مجبرة على العزلة، وكأن الجميع يعاقبونها على رحيل أبيها، وعلى بقائها وحدها في عالم يظن أنها هي الخطر الوحيد الداهم الذي يواجهه.. وكما لو أنها فتنة كبرى انطلقت بموت أبيها..

تحاشت كثيرا نظراتهم الوقحة، وصمّت آذانها عن همساتهم الحارقة.. وفي ذات مساء، وحين ضاق عليها الخناق.. وازدادت عليها ضغوط سيدات القرية، حتى أصبح إلحاحهن زجراً ونظراتهن كالسهام نافذة موجعة، وكذلك نظرات الرجال اللاهثة مرعبة.. قررت سعاد الرحيل.. الهروب بعيداً عنهم، إلى مكان لا يلتفت فيه أحد للأخر، ولا يعنيه إن كانت بلا أب أو بلا رجل..

غادرت سعاد عالمهم الخادع المتلون رغم بساطته.. هربت من مجتمع يدعي أن الفريسة هي من دعت صائدها إليها، بل وأغرته بافتراسها.. لا أحد أراد أن يعرف إلى أين ذهبت سعاد.. تخلصوا منها بلا لحظة تأنيب واحدة لضمائرهم.. تركت بيت أبيها خاوياً تمور فيه الرياح، محدثة أصواتاً مرعبة.. وكأن الهواء يزمجر غاضباً لرحيلها.. وظلت الأصوت هكذا لا تهدأ داخل البيت، حتى ظن أهل القرية بأن الأشباح سكنته، وأن روح أبيها تصرخ غاضبة منهم ليل نهار.. تتوعدهم بالانتقام لإبنته التى لفظوها بعيداً عنهم، وفرطوا فيها.. وقد نزعوا عنها حقها في أن تحيا آمنة في منبتها وعلى أرضها..

باتت قصة البيت والأصوات، حديث الجميع، تشغل عقولهم.. حتى تملكهم الخوف والرهبة من هذا
البيت الغاضب المسكون.. فاقترح البعض أن يهدموه، فثار آخرون يحذرون من مغبة هدمه، وأن هذا سوف يجر عليهم المزيد من غضب روح الشيخ حلمي.. ومن يدري ربما يدفعه هذا لأن يأخذ بثأره من أبناء وبنات كل من يحاول هدم البيت..

لم يجرؤ أحد على المساس به.. وذهب البعض منهم للبحث عن سعاد؛ ليعيدوها إلى بلدتها ثانية حتى تهدأ روح أبيها، ولكن آتى بحثهم بلا جدوى، اختفت سعاد وكأن لم يكن لها وجود من الأصل.. مرت سنوات على رحيلها.. وقد اعتاد أهل القرية على وضع النذور والهدايا أمام عتبة باب بيتها وتعليقها على نوافذه طلباً للسماح.. واعترافاً منهم بذنبهم الذي اقترفوه.. ولسان حال كل من يأتي إليه ينطلق متوسلاً ” أوعك يا شيخ حلمي تنتقم مني.. ” حتى تحول بيت الشيخ حلمي إلى ضريح، يأتيه كل من يطلب الغفران من أي ذنب كان..

لكن أبداً لم يجرأ أحد على الدخول إليه خوفاً من روحه الغاضبة.. وظلوا هكذا حبيسي خوفهم وذنبهم، الذي بات يظللهم وذريتهم كسحابة موت..!

شاهد أيضاً

عندما يتوقف المطر … بقلم: مريم الشكيلية – سلطنة عُمان

عدد المشاهدات = 6605 عندما التقيتك أول مرة في ذاك اليوم الربيعي الهادئ على الجانب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.