في قاعة المحكمة، حيث تُوزن الكلمات بميزان العدل، ويُرفع صوت القانون ليعلو فوق كل صوت، يظن البعض أن الرحمة لا مكان لها وأن العقوبة لا تشفع لأي إنسان، لكن الحقيقة أن العدل بلا رحمة قد يتحول إلى قسوة، والرحمة بلا عدل قد تصبح فوضى وتزيد من تمرد الأشخاص وعصيانهم.
وهنا يظهر دور القاضي الرحيم الذي لا يكتفي بتطبيق نصوص القانون حرفياً، بل ينفذ إلى أعماق النفوس، يقرأ ما بين السطور، ويوازن بين قوة العقوبة وحكمة الإنسانية.
ففي كل حكم رحيم رسالة تؤكد أن العدالة لا تعني كسر الإنسان وعقابه أشد العقاب، بل منحه فرصة جديدة تساعده على مراجعة النفس وتقييم السلوك ومعالجته، لتحقيق حياة أفضل. وإذا أردنا أن نفهم قيمة الرحمة في ميزان العدالة، فلا بد أن نتأمل بعض المواقف التي جسدت هذا التوازن الإنساني.
ففي أحد البرامج التلفزيونية، وُجه إلى أحد القضاة سؤال عن سر حرصه الكبير على الاستماع لقصص المتهمين وتبريراتهم -خصوصاً تلك التي تتعلق بالأسرة والظروف الشخصية- ابتسم القاضي وأجاب برحابة صدر بأن مهمته لا تقتصر على تطبيق القانون بتفاصيله الدقيقة، بل تمتد لتشمل فهم ظروف الناس والتعامل معهم بإنسانية.
وأوضح قائلاً: من غير العدل أن نفرض عقوبة يستحيل على شخص تنفيذها بسبب الفقر أو المرض أو تقدم العمر. وضرب مثالاً بشخص قد يمثل أمام المحكمة وهو يعاني مرضاً مميتاً، أو آخر مسن يعجز عن العمل، أو أب لا يملك قوت يومه لأطفاله؛ فهنا لا بد أن تُؤخذ هذه الظروف بعين الاعتبار، لأن العدالة الحقيقية لا تنفصل عن الرحمة.
في النهاية، يعلمنا القاضي الرحيم أن العدالة لا تكتمل إلا حين يسكنها قلب، وأن أعظم القوانين هي تلك التي تحفظ للإنسان كرامته وهو يواجه خطأه؛ فالعدل بلا رحمة قسوة، والرحمة بلا عدل فوضى، واجتماعهما هو الذي يمنح العدالة بُعدها الإنساني الأعمق.
———————————————————
* كاتبة ومدربة في مجال الأسرة والأبناء – دولة الإمارات.