أحياناً نتساءل لماذا لم تستمر بعض العلاقات بنفس القوة والانسجام؟ ولماذا تلاشى التواصل تماماً في علاقات كنا منبهرين فيها بمستوى التفاهم والحب، الذي لم يعد اليوم كما كان؟
هل السبب هو القرب الزائد الذي حجب البصيرة عن العيوب؟ أم انعدام الاحترام والمودة؟ أم أن هناك أسباباً أعمق لا نراها بسهولة، فما هو السبب الحقيقي إذاً؟
فن المسافات هو أحد أهم عوامل الحفاظ على توازن العلاقات واستمراريتها، فهو ما يُعلّمك متى تقترب ومتى تبتعد، ومتى تمنح حضورك ومتى تترك مساحة للطرف الآخر.
فالعلاقة، كأي كائن حي، تحتاج إلى مساحة كافية لتتنفس وتزدهر، وبلا شك، فإن القرب الزائد قد يُرهق ويستنزف الطاقة، والغياب التام قد يُطفئ شمعة الحب. لكن المسافة المدروسة هي التي تُبقي العلاقة حيّة، مليئة بالاحترام والاشتياق.
رغم أن المسافات قد تكون منقذة لبعض العلاقات، إلا أن كثيرين لا يحتملون فكرة الابتعاد، خصوصاً أولئك الذين يرتبطون بالآخرين عاطفياً بدرجة عالية، أو يخشون فقدانهم باستمرار. وهنا يأتي دور تدريب النفس على التوازن العاطفي، وعلى التعلّق الواعي غير المبالغ فيه.
ولكن متى يُصبح الابتعاد ووضع المسافات مدمّراً للعلاقات؟
عندما لا يكون عن وعي، بل يكون تجاهلاً أو هروباً من المواجهة، وحين تُستخدم المسافة كوسيلة للعقاب أو للتهرّب من المصارحة، فإننا بذلك نُضعف العلاقة، ونبني جداراً من الصمت بدلاً من جسرٍ من الوعي والنُضج.
فعندما يغيب التواصل الصادق أثناء البُعد، يبدأ الطرف الآخر بالتأويل: هل ابتعد لأنه مشغول، أم لأنه لم يَعُد يهتم؟ فيُفتح بذلك الباب على مصراعيه أمام الشكوك والفراغ العاطفي.
العلاقة تحتاج إلى مسافة، نعم … لكن المسافة لا تعني الغياب الكامل، ولا تعني إهمال التواصل. ففي زمن الارتباك العاطفي والاجتماعي، قد تكون أعظم هدية نمنحها لمن نحب، هي أن نُحسن التوقيت … نقترب بحب، ونبتعد باحترام. فالمسافة أحياناً لا تُبعد، بل تحفظ العلاقة، وتمنحها فرصة للنضج، والاقتراب الحقيقي، والازدهار.
—————————–
* * كاتبة ومدربة في مجال الأسرة والأبناء – دولة الإمارات.