الأربعاء , 27 أغسطس 2025
المؤلف حسن العربي.. والناقد أحمد صلاح هاشم

حين يصير الضمير رواية.. دراسة في سردية “تلك المرآة هي أنا” لحسن العربي

= 511

بقلم: أحمد صلاح هاشم

لم يخترعوا بعدُ مرآةً تنقل الحقيقة؛ فإما محدَّبة أو مقعَّرة، تجامل أو تنتقص؛ لعلها صورة من صور النقد الحديث، القائم على التصفيقية والأداء، أو الانتقاد والغبن أكثر من ملامسة الحقيقة والتفتيش في أعماق النصوص.. فإذا وجدنا مرآة مستوية، لاحظنا انعكاس الصورة، وتشوهها!

لا أزعم بذلك حين أتحدث عن “تلك المرآة هي أنا” للأديب حسن العربي أنني أقدم عملًا خاليًا من الانبهار أو الضغينة، لكنني (أزعم) أنني أسعى لتقديم عمل يتجاوزهما، وحسب المجتهد أن يسعى، وستكون الشهادة للتاريخ، والحركة البلاغية، وجمهور المتلقين، الذين ننساهم في خضمِّ الصراع النقدي، الذي صار أشبه برقصة ليلية سخيفة أمام المرآة، لا يطالعها إلا الانعكاس، أو كما قالت المخيلة الشعبية في لحظة ضمير: “زي اللي رقص على السلم، لا اللي فوق شافوه، ولا اللي تحت سمعوا بيه”!

عنوان فضَّاح ومغامر

يبدأ حسن بوقفة أمام المرآة، سنعرف بعد هنيهةٍ أننا لا نرى فيها طيات ملامحنا بقدر ما نشاهد أنفسنا من الخارج في لحظة صدق لا تحتمل أيَّ زيف!

تتحول معه المرآة من جماد صامت إلى كائن فاضح، يعرّي بطلة العمل من كل أقنعتها، ويضع القارئ في قلب مواجهة وجودية: ماذا يحدث حين يصبح الجماد ضميرًا ثم يمنحه الكاتب كل لسان، فلا يقاطعه، ولا يُخرسه، وإنما يترك للجمهور سلطة القبول والرفض؟

يختار حسن العربي أن يعنون روايته بـ«تلك المرآة هي أنا»، غير متلجئ إلى الغموض، وإنما يضع القارئ (المستهدف الحقيقي بالنص كما سنرى… لا النقدة ولا الناشرون) أمام حقيقة صادمة: تصير المرآة صوتًا أنثويًّا بطلًا يواجه الساردة الجزئيَّة (آمال) بضعفها وقوتها، برغباتها وخطاياها، بكل ما يختبئ عادة خلف الأقنعة (وأقول الجزئية لأن الراوي العليم يحلو له من حين لآخر أن يشاركها المسكوت عنه في غياهب النص). ومنذ اللحظة الأولى يجرّنا الكاتب جرًّا إلى هذه المواجهة عبر مشهد عصفور صغير يقف على الشباك، يراقب البطلة في صمت كأنه جاسوس من عالم الغيب. وبهذه اللمسة الشعرية يفتح الباب على ما يشبه اعترافًا طويلًا، ينساب من داخل رأس البطلة قبل أن نعرف عنها أي شيء.

مرايا متعددة لوجوه متناقضة

ثم نتعمق قليلًا فنكتشف أن الرواية لا تقوم على مرآة واحدة، بل على مرايا متداخلة تتبادل الأدوار في فضح النفس الإنسانية. فمرآة البيت هي الشاشة الصامتة التي تُحاكم آمال في وحدتها. وليلى، الزوجة المريضة، تظهر بوصفها مرآة أخرى: فهي رمز الرضا والسكينة، نقيض توتر آمال ونزقها. أما صابرين، فتمثل مرآة أبناء كمال، تعكس أثر البيئة في تشكيل المصائر: فتاة نشأت في بيت مضطرب تجرّ وراءها فوضى واندفاعًا، في مقابل بنات كمال اللواتي تربين في جو أكثر اتزانًا. هكذا تتوزع المرايا، لتصبح كل شخصية انعكاسًا لصوت داخلي أو مسار محتمل من مسارات الحياة.

ثم لا يكتفي العربي بجعل المرآة أداة انعكاس، فيرفعها إلى مستوى الشخصية الحيّة. في لحظات كثيرة، تتحول المرآة إلى صديقة فاضحة، مستشارة حازمة، صوت داخلي يُعيد البطلة إلى وعيها كلما أوشكت أن تضلّ. بهذا الاختراع السردي يتجنب حسن العربي السقوط في النصائح المباشرة، فيحوّل المرآة إلى خشبة مسرح داخلي، حيث يدور أعمق حوار بين الإنسان ونفسه.

هي رواية إذًا تتخذ المفارقات والتناقض توطئة لبيان رسمي يقدِّم منظومة أخلاقية لا تشبه المتعارف عليه من إرشادات عابرة، نجدها في أغلفة الكتب القديمة، وإنما تقدم مساحة جديدة لتصورات حول الضمير والمصير وكيفية الوصول إلى الهدف بطرق متعددة، فهل للمقاصد أحكام الوسائل؟ أم الغاية تبرر الوسيلة؟!

اقتحام منطقة المسكوت عنه

الجرأة الكبرى في هذه الرواية نزولها إلى أرض ملغومة: المشاعر الإنسانية غير المعلنة. آمال ليست طبيبة فوق البشر، بل إنسانة حقيقية تتأرجح بين الواجب المهني والرغبات الشخصية. لمسة يد من كمال تكفي لإشعال حريق داخلي يجعلها تتساءل بصدق: من يحتاج إلى العناق أكثر، هي أم بناته؟ هنا يتألق النص، لأنه لا يختبئ خلف لغة الأخلاق ولا يضع القارئ أمام درس وعظي، بل يتركه يتأمل هشاشة النفس البشرية وهي تتكشف في لحظة ضعف إنساني عابر ومستمر. إنها المنطقة التي نعبرها جميعًا ثم ننفض ثيابنا عنها، ونلبس عباءات الكبار، ونمنع أبناءنا من الانسياق إليها.

واقعية بلا أقنعة

ما يميز السرد أيضًا أنه لا يكتفي بالخطوط اللامعة التي ترسمها الدراما التقليدية، بل يصر على كشف فوضى الواقع. حين تسقط ليلى في نوبة صرع، لا نجد غرفة بيضاء نظيفة ومشهدًا هادئًا لشخصين فقط، بل نرى الصراخ والارتباك وهرولة الأقارب وضجيج الإسعاف. الحياة هنا تُروى كما هي، بأصواتها وتفاصيلها، لا كما تُعرض عادة في أعمال الشاشة.

غرفة ليلى في المستشفى أصبحت عنابر زيارات. إن الرواية بهذا تنتقد (دون تصريح) المنظومة الأحادية التي تتصور البطل والبطلة هما العالم، وتفقد العلاقة بالآخرين.. ولنسأل بصراحة: كم مشهدًا هوليووديًّا (نلاحظ أن كم استفهامية فسؤالي يريد إجابة) أو عربيًّا وجدنا فيه البطلة مريضة ولا حولها سوى البطل، كأنها منبتّة الصلة عن العالم أو لقيطة لا أهل لها؟

حسن لا يعير هذه السردية الضعيفة اهتمامه، وإنما يصفها كما يصف الكاتب المحترف محيطًا ألفه وعايشه، سواء من تجاربه الحياتية، أو من لحظات التجلي الإنسانية!

معضلات الفلسفة بين الأمل والعلم

خلف الحكاية العاطفية والاجتماعية، هناك أسئلة فلسفية تُثقل الرواية بالمعنى. هل يحق للطبيب أن يمنح المريض وهج الأمل حتى لو كان سرابًا؟ أم أن المصارحة الباردة هي الطريق الأخلاقي الوحيد؟ وأين ينتهي دور الدين كعزاء، وأين تبدأ سلطة العلم كحقيقة قاسية؟ هذه المعضلات تُطرح بوصفها همًّا داخليًّا ينهش البطلة، لتصبح الحيرة جزءًا من التجربة القرائية نفسها.

هنات صغيرة لا تحجب الضوء

ومع كل هذا الثراء، لا تخلو الرواية من بعض الهنّات: لحظات تفسير كان يمكن أن يُترك فيها للصورة أن تقول كلمتها، أو تسلل صوت الراوي العليم وسط ضمير «الأنا» فيربك قليلًا. لكن هذه الملاحظات تبدو شبيهة تمامًا بالخيط الباهت لا تحجب لمعان النسيج الكلي، خاصة أمام حيوية السرد وجرأة الدخول إلى أعماق النفس، ثم إن صدقية الحكي تعوِّض عثرة لا شك ستقع في أي عمل روائي.

تفاصيل تضيف حرارة النص

من أجمل ما يميز العمل أن تفاصيله الصغيرة لا تقل أهمية عن خطوطه الكبرى. فالإهداء يبدأ بالأم ثم يتسع إلى الأب ثم إلى العالم، في حركة هندسية صادقة تعكس روح الانتماء. والنبرة المصرية التي تتخلل الحوار — دعابة صغيرة، أو جملة يومية عابرة — تمنح النص واقعية محببة وتكسر من حدة التراجيديا.

عصفور البداية وعش النهاية

لتأتي النهاية قصيدةً قصيرةً تعيدنا إلى المشهد الأول: العصفور الذي بدأ الحكاية يرجع ليشير إلى عشّ جديد يحوي أفراخًا صغيرة، بينما كمال غارق في نومه. دائرة تنغلق لكنها لا تُغلق السؤال، بل تتركه معلقًا: ماذا تريد آمال من نفسها؟ وماذا تريد مرآتها منها؟ إنها نهاية مفتوحة، لكنها محكومة بإيقاع البداية؛ فالعصفور وحده يعرف الحقيقة ويكتفي بالتغريد.

وإجمالًا، وتيسيرًا على من لم يقرأ الأسطر السابقة نقول: رواية «تلك المرآة هي أنا» حالة من حالات التماهي مع قوة الضمير، وحيوية النص تأتي من مقامرته بفضح المشاعر الأكثر هشاشة، مع ترك الإجابة للقارئ.  يعني ذلك أنها رواية لا تجامل، ولا تخفي عيوب بطلتها ولا حتى هنّاتها الفنية، لكنها تعطي صورة صادقة عن الإنسان كما هو: متناقض، متوتر، عاشق للحياة، خائف من مصيره، ومفتون بمرآته التي لا تكذب.

هي أشبه بقول فاروق شوشة ذات صدقية:

أنا أبليس والقديس

والترتيب والفوضى!!

شاهد أيضاً

الملتقي الثقافى للشباب يواصل نجاحه في الإسكندرية

عدد المشاهدات = 1643 تحت رعاية الدكتور أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة، انطلقت أمس الاثنين، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.