ما زال الموت يشغل حيزًا كبيرًا من تفكيري، حتى أصبح هاجسًا؛ أفكر فيه في اليوم مرات ومرات. كل ما يعنيني هو ذلك السؤال الحائر: متى يأتي؟ وكيف يأتي؟
يتكرر السؤال والهاجس بعد أن أدمنت مشاهدة الأفلام السينمائية القديمة التي صُوِّرت باللونين الأبيض والأسود. أصبحت أشاهد القنوات الفضائية التي تعرض تلك الأفلام؛ قنوات كلاسيكية، وقنوات الذكريات، وقنوات زمان. كل هذه المترادفات تريحني؛ فذلك الماضي لن يعود، لكنه يُطِلُّ من على الشاشة الفضائية. عندما يبرز الموت كفكرة كلاسيكية أمامي وأنا أشاهد فيلمًا قديمًا، أتذكر أبطال هذا الفيلم: كلهم ماتوا.
لقد أصبحوا الآن ترابًا. وحش الشاشة، والدون جوان، والفتى الشقي، والعندليب، والطيب، والشرير، والبطل، والكومبارس، والسندريلا، وسيدة الشاشة، والدلوعة وجميلة الجميلات، الكل في التراب سواء. استوى الجمال والقبح، والثراء بالفقر، والقوة بالضعف.
استعدت ذكريات المرة الأولى التي التقيت فيها بالموت. كنت طفلًا صغيرًا، أشاهد جدي على طاولة خشبية يغسلونه، ثم يضعونه في ثوب أبيض، وينثرون عليه العطر، ويدخلونه ذلك الصندوق الخشبي الذي حمله الناس إلى مسجد القرية. وبعد صلاة الجمعة، وضعوا الصندوق تجاه القبلة، وصلينا عليه صلاة بلا ركوع ولا سجود. ثم كانت لحظة الذروة التي أخرجوه من الصندوق ليتركوه وحده داخل القبر.رفع المشيعون أكُفَّهم للسماء ودعوا له، وعدنا إلى حيث أتينا إلى البيت القديم.
سألت أبي : ماذا سوف يحدث لجدي بعد ذلك؟
قال : عندما نذهب إليه سنعرف كل شيء!
حاولت أن أنسى التفكير في الموت وشغلتني الحياة، لكنه لم يتركني أنساه. أذهب للعزاء وأُشَيِّع الجنازات.
أراد أن يلقنني درسًا؛ فماتت أمي، ثم مات أبي. وتوالى حصاد الأرواح. رحل خالي وخالتي وعمي وعمتي وكثير من الأقارب بالعائلة وأهل قريتي. أقرأ نعي زملاء المدرسة وأترحم عليهم. مات صاحبي الذي يكبرني بشهر، كان قد خرج إلى التقاعد، فجأة مات دون مقدمات.
عدت لمشاهدة الأفلام القديمة. هاهو ملك الشاشة يرسل لي رسالة غامضة.
تردد صداها في فضاء عقلي : ليست النهاية سوى بداية جديدة.
فهمت الإشارة، لم أعد أغادر حجرتي وأنتظره كل ليلة قبل أن أنام، بعد أن أكون قد شاهدت فيلم رعب قديم.
- كاتب المقال أديب وقاص مصري.