كانت تتأمل بحر العلاقات الإنسانية الواسع، فتقول: نحن في بحرٍ شاسع بلا حدود، تسبح فيه أرواحنا متصلة بخيوط غير مرئية، تمتد من قلبٍ إلى قلب، وكأنها خيوط ضوء لا تُدرك إلا ببصيرة نقية. تلك الخيوط ليست مجرد روابط عابرة، بل هي أغصان شجرة عملاقة، تتشابك في تعانقٍ صامتٍ مع السماء. تمنحنا هذه الشجرة ظلها الوارف لتُريحنا، وثمرها الحلوه لتُشبعنا. لكن، وسط أغصانها المتشابكة، تنبت أحياناً أشواك خبيثة، تندس في عمق الجسد، وتبعث بسمومها في الروح، فتحيل ظلالها إلى عبء ثقيل، ويتحول طعم ثمارها إلى مرارة لا تُطاق.
تتابع حديثها بصوت عميق وهادئ، فتقول: “نحن لا نقطع تلك الفروع الذابلة والفاسده عمداً، إلا حينما نجدها قد تعفنت وتسلل السُم إلى قلبها، لتتحول إلى عروق يابسة خالية من الحياة. القطيعة ليست غاية في حد ذاتها، بل هي محاولة يائسة للحفاظ على ما تبقى من صفاء، بعدما بات بعض الأقارب كالغرباء، وصار أصدقاء السوء كالشر المستتر تحت رماد الوقت، جاهزين للاشتعال عند أول هبة ريح. نتجنب أولئك الذين يتبدلون كالحرباء، يحملون في قلوبهم جمراً متقداً من الحقد والكره، ويخفون خلف وجوههم قناعاً زائفاً من الود، كالعنكبوت الذي ينسج شباكه بمهارة ليصيد في غفلة.
نحن لا نكره البشر لذواتهم، فما زالت قلوبنا تتسع لمن يُنشد لنا الخير، لكننا نفر من تلك الأفعال التي تعكر صفاء أرواحنا، ونتجنب أولئك الذين جعلوا من الكذب والافتراء سلاحاً مسموماً يبثونه في الخفاء. نبتعد عمن يغرسون بذور الفتنة في الظلام، ويفترون علينا بما ليس فينا، يشوهون صورتنا في الغياب، كرياح عاتية تعبث بما تبقى من هدوئنا الداخلي. قلوبنا، وإن كانت مليئة بالخير، تبقى يقظة كالحارس الليلي، تتحاشى النفوس المظلمة التي لا هم لها سوى تعكير صفو الحياة.”
كانت تدرك دائماً أن الابتعاد ليس انسحاباً جباناً، بل هو درع شفاف تحمله الروح كي تحتمي من سموم البغض التي تلوث نقاء النهر. هي تعرف جيداً أننا نسير في هذه الحياة بقلوب نقية، عذبة كنسمات الفجر الأولى، لا تعرف سوى الحب وتبث الخير، لكننا نعلم أن الحفاظ على هذا الصفاء يتطلب أحياناً قطع أغصان قد سممتها أحقاد الأيام. دائماً ما تؤكد أننا لا نكره الأشخاص، بل نكره تلك الظلال الداكنة التي ألقت بها أفعالهم على نفوسهم، فنبتعد عنهم لعل شعاعاً من الوعي يذيب يوماً ما جليد قلوبهم المتحجرة، فتعود لطهارتها. لكن، كم هو عبث أن ننتظر تغييراً في قلوب أغلقتها الأوهام!
وسيبقى الحال كما كان، ثابتاً في جمود الصمت.