كانت واقفة هناك، كقصيدةٍ نسيها شاعرها في زحمة العمر، متكئة على شرفةٍ تشبه حافة الذاكرة، تلك التي تهوي منها الأحلام حين تتعب. في يديها فنجان قهوة بارد، لا يدفئ سوى الفراغ، كقلبٍ كان يوماً مشتعلاً ثم أطفأه الغياب.
كانت تحدّق فيه كما يُحدّق الغريق في صفحة الماء، لا يرى نجاته بل وجهه الموشّح بالفقد. تسأل الرغوة عن ملامحٍ رحلت، عن أصواتٍ صمتت كأنها لم تكن، عن دفءٍ مرّ من هنا، وخلّف وراءه برداً لا يزول.
انزلقت دمعة من عينها، كأنها اعترافٌ سرى من بين ضلوع الصبر، دمعةٌ لم تكن ماءً بل مرآةً صغيرة، عكست روحاً تهيم في الزوايا المعتمة. لحظة واحدة فقط… لكنها عبرت في داخلها كسهمٍ يقدح من نار الماضي، يخترق الوجع دون أن يعتذر.
اقتربتُ منها كما يقترب العطر من زهرة ذابلة، لا ليوقظها، بل ليواسيها، فسمعتها تهمس بأغنيةٍ مهشّمة النغم، صوتها مثل ذاكرةٍ تقف على عكّاز. شعرتُ أنها شعرت بي، كأنما خيالها لمحني بين الظلال، فتشبّثت بصمتي، كأنّه سفينة نجاة في محيطٍ من الغياب.
قالت بصوتٍ يشبه أنين الناي بعد ليلٍ طويل: “لم أعد أنتظر أحداً… لكن الوحدة ماكرة، تجعلنا نؤمن بأن أول طارق هو المنتظَر. وطرقتني ذات مساء… لم يكن أحد، كان ظلّي، عاد ليعتذر دون أن يعلم أنه المفتاح لما أغلقته بيدي.”
أكملت، وصوتها يرتدي سواد الذكرى: “في تلك الليلة حين لبست الحداد دون جنازة، حين كفّنت قلبي بصمتٍ لا يبكي، وجدتني أمام فنجان لا يعكس وجهي، بل يعرض عليّ امرأة أعرفها كأنني لا أعرفها. كانت هناك خلف الرغوة، بعينين غادرهما الضوء كما يغادر العشاق الوطن حين تضيق به الحياة.”
لم تجرؤ أن تمدّ يدها للفنجان، خافت أن تلمس الغريبة التي تشبهها، أن ترى ملامحها وقد تنكّرت لها، خافت أن يتسلل الحنين من بين أصابعها ويُسقطها في ماضٍ لا رجعة منه.
تقدّمتُ منها، مددتُ ذراعي كمن يحتضن حلماً كاد أن يضيع، وعانقتها… لا كما يُعانق الجسد الجسد، بل كما يحتضن المنفى عائداً متعباً. كان دفؤها كأنفاس الأمهات حين يعدن من الدعاء، كأن تُفتح نافذة من زمنٍ بعيد تفوح منه رائحة أول رسالة، وأول خيبة.
حدّثتني بلا كلمات، بصمتٍ ينحت في الروح، همست لي عن أحزانٍ خبّأتها في طيّات الذاكرة، عن أفراحٍ صغيرة ضاعت بين الأصابع، عن دموعٍ أُجبرت أن تجفّ قبل أن تنهمر.
كانت كلماتها كالمطر الذي لا يُغرق، لكنه يترك ندىً في الأعماق. قالت لي، وهي تقلب السؤال في عينيها كمن ينفض الغبار عن ساعةٍ مكسورة: “لماذا تأخّرتِ؟”
فأجبتها كما تجيب الحقيقة حين تُعرّى: “لأني كنت أهرب منكِ.”
سقط صوتها في أعماقي كسقوط حجر في بئرٍ منسية، وأيقظ كل الأصوات التي سكتت طويلاً. عرفت أن خوفي لم يكن من اللقاء، بل من الوقوف عاريةً أمام مرآتي، من رؤية خديعتي وجهاً لوجه، من مصافحتي لنفسي بعد كل هذا الهروب.
لكنني لم أهرب، جلستُ إلى جوارها، وتحدّثنا كصديقتين افترقتا منذ طفولة القلب، حكينا عن الصمت، عن الحب الذي جاء ومرّ ولم ينتبه إلينا، عن الخذلان الذي لبس ثوب الألفة، وبين الحديث والصمت، صار العناق الذي بدأ كغربة، يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى وطن.
وها أنا… أتعلم الآن كيف أحبّني من جديد، بعد فُرقةٍ دامت دهراً، وكيف أقول لظلّي: مرحباً، عدتُ إليك لأبقَى!