الخميس , 16 يناير 2025

د. سعاد سوّاد تكتب: رسائل تائهة (2)

= 11243

 

صقيع قلبك قارسٌ جداً يا أبي…
إنه يذكرني بأول يومٍ أشرقت فيه شمس عمري، كان آخر يوم في السنة، وكانت فيه أيضاً أولى قراراتي، أن أقابلك أنت وأمي.

شهور قضيتها في عالمي الفسيح، عالمٌ وهبه الله لي وحدي، أتقلب ذات اليمين وذات الشمال، الوحدة فيه لا تبث الخوف أبدًا، الدفء والحنان يتسللان إليه يغمراني في كل لحظة، كنتُ أشعر بيد أمي تربت عليّ حين ألهو، ويتهادى صوتها إلى أذنيّ فرحًا ببهجتي، ثم أصواتٌ أخرى متلهفة للقياي، لم يكن في وسعي رؤيتها أو رؤيتهم، صحيح أنه لا يفصلنا إلا القليل، إلا أن عالمينا مختلفين ومتباعدين نوعًا ما، تقرّبه تلك العواطف الجياشة بيننا.
أما صوتك فقد تاه بالنسبة لي، هو الوحيد الذي لم أميزه، لم أشعر بيدك أو بروح بهجتك، أكنت بعيدًا أم أن هنالك ما شغلك عنا؟ رغم ذلك منّيتُ نفسي بلقياكما معًا، تملَّكني الشوق، ازدادت اللهفة في قلبي، هنا برقت فكرةٌ في عقلي، وكَبُرت روح المغامرة في نفسي، لِم لا أغادر عالمي؟ الكل ينتظرني، الكل سيستقبلني بسعادة دون شك، لِم عليَّ الانتظار؟ لا شك أن عالمهم أجمل من عالمي ما دام به أمي وأبي.
عقدتُ العزم، واتخذتُ قراري بحزم وشجاعة، فاجأتُ أمي، لم أكن أدري أنها ستتعذب بسببه، وستنهال عليها سياط الآلام، وسيرتجف جسدها، كم أرهقها العناء، وغلبها الأعياء، والدموع تنساب من عينها في صمت لتتحمل شقاوتي، ما أعظم صبرك يا أمي! من سيحتملني إن لم تتحملي طيشي؟
صبرت وصبرت وهي تصارع الآلام، وحين فاقت قدرتها علَّت أناتها وآهاتها، هرعوا بها إلى المستشفى والقلق والخوف يتملكهم، ودعواتهم تصحبها وهم ينقلونها إلى أيادي طبيبة وممرضات.
(لن أتراجع رغم كل شيء، آسفة أمي)
قلتها في نفسي رغم زوبعة القلق والمعاناة التي أثرتها في كل من حولها، تقدمت أسابق عقارب الساعة لأحقق مرادي، كان عليّ الصمود أنا أيضًا، وحين استقام عقربيها عند السادسة هتفتُ عاليًا في ظفر ومرح:
-هأنذا.
أطرب صوتي آذان الجميع، وحمدوا الله على سلامتي وسلامة أمي، لكن الخوف دب في أوصالي فجأة، هذا العالم غريب، مختلفٌ عما عما نسجه عقلي الصغير، فسيحٌ لكن نسماته باردة، وهواءه خانق، ياااه ما أكثر الأيادي التي تحملني بعيدًا عن أمي.
يالطيشي! من الصعب عليَّ أن أعتاد عليه، أريد أن أعود، أريد أن أعود، كم كنتُ حمقاء حين قررت خوض هذه المغامرة إلى عالمٍ أجهله.

بكيتُ هذه المرة حزنًا لفراق عالمي، وخوفًا من المجهول، لكن ما لبثتُ أن عدتُ لأمي المتألمة المتعبة التي استقبلتني بسعادة، وضمتني لصدرها بفرح، وألصقت جسدي بجسدها لتطفئ نيران ألمها بلقياي، وتغدق عليَّ بالقبلات، عجبًا لها! لقد آلمتها وعذبتها، هل نست كل ما فعلته بها حتى أرى السعادة ترتسم على وجهها في أبهاها؟
تلاشى حزني، وهدأتُ بين أحضانها، لقد نفض حنانها غبار الخوف عني، وغمر الفرح قلبي، فنمتُ بين ذراعيها، أبحث عن ذلك الشهد السحري المخبئ في صدرها، إنها أمي.. ملاذ أمني، وقوتي.
دقَّت ساعات عمري الأولى، والكل يتهافت لرؤيتي واحتضاني، ومداعبة وجنتي الصغيرتين الورديتين، ولمس بشرتي البيضاء الطرية، وتقبيل أطرافي الصغيرة، كنتُ الملكة دون حفل تتويج، تطالعني العيون بحب واشتياق كبيرين، ساعيين لكسب رضاي وامتلاك مشاعري، وحده من يستطيع بث الطمأنينة في قلبي سيظفر برضاي، وسيحتضنني بين ذراعيه.
إلا أنت!
فأول يومٍ أشرقت فيه شمس عمري، غربت فيه شمس أيامك، لقد كان يوم رحيلك.
كيف أعجز عن تمييزك من بين الجميع، وقلبي يضخ دماءك في عروقي، ليصور لي طيفك الذي يتجسد أمامي قبل أن ألقاك، لكنه طيف لم يستطع مداراة خيبتي.
ألهذه الدرجة لم تكن مشتاقًا لرؤيتي، أم أنك تهرب من صراخي وبكاء أمي؟
ألهذه الدرجة عشقت الرحيل دون أن تحتضنني؟
ماذا لو تجرَّعت ألم أمي، أكنت ستكرهني بقية عمري أم ستئدني؟
آخر يوم في السنة هو آخر بقاياك هنا، ولعلك لا تعرف أو لا تذكر شيئًا عما رويته، وإن تذكرتَ، فلن تذكر سوى الرحيل.
متى ستئد الرحيل يا أبي؟

————————————————————————-

  • طبيبة شرعية وأديبة من اليمن

شاهد أيضاً

شخصيات لها تاريخ: حكايه الفنان استيفان روستي وزوجته

عدد المشاهدات = 3509 بقلم الكاتبه: هبه الأفندي يلا بينا نعرف حكايه الفنان استيفان روستي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.