الجمعة , 29 مارس 2024

“شط اسكندرية”…قصة قصيرة بقلم مي سامح

= 2243

الأسكندرية اليوم الرابع عشر من شهر يوليو:
قرر عز وأمنية السفرْ معاً بعد عدة أيام من إتخاذهما هذا القرار، القليل من المناوشات هنا و هناك، الكثير من الجدال حول الوقت الذي يحكمهما للعودة إلي عملهما طبقاً للعُطلةِ المحددة..

جلَست أمنية علي رمالِ البحر بعد أن قررت وضع حقائبها في غرفة الفندق وأخذَت أقدامها تجري مسرعةً نحو طريقها المعروف “البحر” المكان الذي لم ولن يفشل في جعلها سعيدة..

أغمضَت عيناها وأخذت شهيقًا كان كافياً ليحتوي كل الهواءِ حولها آااه كم افتقدَت البحرَ كثيراً فالأسكندرية هي موطنها الأول، هنا الأصل الذي يأتي له الجميع حين يود الهروب من مصاعب الحياة و تعقيداتها

“هنا هي تنتمي”

– يا آروبة لحقتي تيجي عند البحر؟

قاطعها صوت عز من الخلف
فابتسَمت له دون رد و سرحت في البحرِ مجدداً

كانت جميلة، جميلة جداً لا اعلم ما الذي فعلتهُ لأحظي بصداقة تلك المرأة التي تعثَرت بقلبي ووجدته رغماً عني وعنها في يدها، تأخده وتُنَقله بين يديها كالصلصال الذي يُشكَل بخفةِ اصابعها فقط ف هي الوحيدة التي تملك كل أدوات تشكيل ذاك الصلصال..

هذا الشعر البندقيّ الطويل والعيون العسلية ذات البريق الخاص، تلك الأنف الصغيرة التي أحب أن التقطها بين أصبعي عندما تُقرر العبث معي من حينٍ لآخر وكأنني الفأر وهي القطة التي تُخرج ليّ لسانها دائماً لأنها تعلم أنها سوف تلحق بي في النهاية وتُوقعني في شبكة الصيد الخاصةِ بها..

هذا الفستان الورديّ الذي عشقته كثيراً عليها ف هو الهدية التي قررتُ أن اُهديها لها في عيدِ ميلادها السادس والعشرين، الذي اتخدت منه بعض الورود البيضاء مجالاً لكي تعرف أين مكانها علي بُقعٍ معينةٍ من بقاعِه، يكشف عن ذراعيها لتلمع تحت أشعة الشمس ايضاً فبشرتها ناعمة جداً كبشرة الطفل حديث الولادة، لا استطيع أن انظر لشئ و هي معي وكأن الكُون يتمحوَر حول فتاة واحدة

أمنية حياتي، أمنية قلبي
أمنية هي الوحيدة التي تجعلني…

– مالك سرحتْ في ايه؟
– في البحر..
– في البحر ؟ بكاش جداً انت مبصتش ناحيته من أول ما خطينا عالرملة
– اُمال بصيت فين؟
– ها؟
ارتبكتْ وكأنها تقف أمام دكتور مادة في امتحانٍ شفويّ عسير
وظلت تحرك عينيها عشوائياً في كل اتجاه
وقامت بوضع خصلةٍ من شعرِها وراء أذنها الصغيرة
كم اعشق ارتباكها أمامي عندما أضعها في نقطةٍ لا تعلم متي تقوم بالرد عليها
– ايه؟ ارتبكتِ ليه؟

– لا لا ابداً عادي، المكان فاضي ودي أحلي حاجة مفيش غير الولدين اللي هناك مندمجين مع طيارات الورق كنت بحب العب بيها زمان.. و.. و.. الست الكبيرة اللي هناك شكل اللي معاها دي حفيدتها شايف مهتمة بيها ازاي، مشاعر كلها دفا..

قامت بتغيير الموضوع ولكني لم أنس صُلبه الذي جئت لأجله من الأساس..

– بتحبي البحر للدرجة ديه؟
– جداً يا عز جداً جداً
– ليه يا أمنية؟
– بحبه عشان بيفكرني بحد
– حد؟ مين ده؟!

جلستُ علي الرمال والتقطُ يدها لأجعلها تجلس بجانبي في هدوءٍ ثم مسكتُ يدها ووضعتها بين كفيّ لأطمئنها أنها ليست وحيدة كما تظن.

– حد مش متوقع.. هادي ساعات وكله دوشة ساعات تبص له تحس إنك عايز تنزل بس في نفس الوقت خايف الموج يسحبك لحتة ضلمة
نَظرَت تجاه البحر، لاحظت دمعةً ترقرت في عينيها الصغيرتين
و تنهَدت قائلةً:
– بس في نفس الوقت جواه دوشة كتير لو حد حاول
يغطس هيكتشف اسرار كتير
عشان كده الظاهر بتاعه غير اللي جواه
– اممم تصدقي الحد ده بيفكرني بحد تاني..
– مين؟

– واحدة حلوة أجمل بنت شافتها عيني، أمنية
ابتسمت لي و كأنها تشكرني لمعرفة حل اللغز الذي تظنني لن افهمه
لكنها لا تعلم أنني الشخص الذي انتظرَ طويلاً أن اعرف اسمها فقط من باب الفضول..
– بس البحر شكله جميل النهاردة و الشمس دافية
– دافية زيك
– عز…
– لا لا المرة دي أنا اللي هتكلم و هتسمعيني و مش هتهربي مني زي كل مرة..

– بس…عز.. أنا..
– ششش اسمعيني

أخذتُ ألعب في أصابعِ يدها ونظرتُ لها مباشرةً داخل اللوزتين اللتين أشعر أنني كالطفل التائه الذي ضلَّ طريقه ولكنه حتماً سوف يعود إلي أحضانِ أمه قريباً
– فاكرة أول مرة جيتِ فيها المكتب؟ كنتِ مرتبكة ازاي؟
ابتسَمت أمنية في خجل و وضعت يدها تحت خدها لتستمع لي كالتلميذ الذي شوَقته قصة أو اسطورة من أساطير التاريخ..

– كنتِ مش عارفة لسه الوضع هيمشي ازاي، خدتك من ايدك
“اخذت يدها وأخدت أرسم دوائر وهمية علي كفها و انظر له ثم انظر لها بين الجملة و الآخري”.

– كنتِ جميلة يا أمنية وما زلتِ، جميلة، ذوق وشيك في نفس الوقت مش شيك عشان طريقة لبسك حلوة ومتناسقة بس في ناس شيك في التعامل والذوقيات الأصول بتاعة زمان بتاعة جدي وجدك، كنت ببقي عارف اليوم اللي انتِ فيه بتبقي طايرة فيه من الفرح واليوم اللي كنتِ قبله هارية نفسك عياط حتي لو الميك آب مداري عينيكِ، كنت ببقي عارفك من حركاتك العشوائية وتلقائيتك مودك عامل إزاي، عارف بتصحي امتي وبتفطري امتي، و بتحبي تاكلي ايه من بره، و السكوت بعد ما الأكل بيعجبك و مش بتنطقي حرف، و مبتحبيش تاكلي ايه و بتطلعيه علي جنب لو لاقتيه من غير ما حد ياخد باله عشان متحرجيش حد، عارفك لما بتتكسفي و مناخيرك تكرمش، عارفك لما مبتكونيش عايزة تضايقي حد ف تكدبي كدبة بيضا وقتها بتمسكي دراعك بأيدك و تبصي في الأرض و تقولي “لا والله جميل”، عارفك لما بتطبطبي علي حد عشان تطمنيه و تقولي له كمل أنا جنبك انت عملت اللي عليك و زيادة، لما بتلاقي حد زعلان فتطلعي بألشة وتضحكيه أو تفرحيه بطريقة غير مباشرة، الأفلام والروايات اللي ليهم هدف، كل حاجة منظمة حواليكِ مبتحبيش البهدلة، بتقدسي الوقت، و بتحترمي أي حد بيعرف يعمل حاجة بيحبها و يكون موهوب فيها حتي لو صغيرة بالنسبة للعالم بس مهمة بالنسبة له ويحاول كتير لحد ما يوصل.. بتحبي تسمعي كتير، كتير اوي من غير زهق حتي لو مش هتقولي ولا كلمة.. زي دلوقتي.

أخذتْ نفساً عميقاً فمهما تحدثت عنها لن يُكفيها حقها.. ثم نظرتُ تجاه البحر لا أعلم كيف سأقول جملتي التالية و لكن.. ملَّ السكوتَ مني و يجب عليّ التحدث و لكني لا أريدُ أن اخسر أمنية و حتي و إن كان البعد هو الثمن..
و عارف كمان إن… إن….
“تلعثمت و خانني لساني”
ردت بصوت مبحوح و كأنها تريد البكاء من شدة دهشتها عن كل التفاصيل التي سردتها عليها فجأة
– عارف ايه يا عز؟ أنا سامعاك
– عارف إن آسر اللي معانا في الشغل معجب بيكِ يا أمنية..
فتحت عينيها في دهشةٍ وأخذت تحركهما مع اتجاه نظراتي إليها حتي خانتني دموعي و خانتها دموعها في آنٍ واحد
– أنا مش أناني يا أمنية ولا عمري هطالبك تديني مشاعر مش من حقي
– عز والله أنا…
ضغطُ علي يدها بشدة بكلتي يداي قائلاً:
– متقوليش حاجة أنا من ساعة ما حبيتك و أنا كل يوم بقول هفاتحك بس بخاف ترفضيني بس ازاي أخاف من حاجة مجربتش اعملها ؟ ازاي مقولش و أرجع أندم لو اتاخدتي مني و أبقي حاسس إن قدامي فرصة مستغلتهاش صح.
– ممكن إنت تسمعني شوية؟
أومأت برأسي وكأنني اعطي لها التصريح ببِدء الكلام..

– مفيش بنت مش بتحس بالراجل اللي بيحبها أو حتي بيعجب بيها بس، أنا مريت بتجارب كتير قبل كده يمكن مكانتش تجارب حقيقية بس اتأثرت بكل حاجة حصلت في حياتي، أنا مش عارفة أنا عايزة ايه! لسه تايهه.. أي واحدة غيري بعد اللي قولته ده كان زمانها بتقولك هنتجوز امتي و إنت حلو كده ازاي؟!
إنت فعلاً حلو يعني بنضارة كده و نيرد و عينيك عسلية و شعرك بني و طول بعرض ف حاجة يعني حلوة بسم الله ما شاء الله “قالتها بتلقائية كعادتها”
ضحكت معها علي جملتها الآخيرة
– كملي..
– شخصيتك جميلة جداً كمان و شبه بعض في حاجات كتير حتي اختلافتنا بتبقي لطيفة مش معقدة ..بس.. خايفة أوافقك ابقي اتسرعت و خايفة اقول لا أخسرك
مين اللي قال إنك هتخسريني، أمنية.. أنا عمر ما كان ليا صحاب انتِ الوحيدة اللي كسرتِ كل القواعد دخلتِ جوايا تقبلتيني زي ما أنا من غير ما تعوزي تغيري فيا حاجة.. أنا عمري ما أخسر نفسي عشان أنا بعتبرك نفسي اللي برجع لها في كل حاجة…
– عز، متضغطش عليا أنا فعلاً محتاجة وقت
– خدي كل الوقت.. بس… آسر هتعملي ايه معاه؟
– ” وَجهتْ جسدها نحو البحر ثم أسنَدت يدها علي رمال البحر و نظرت له” مش عايزة أفكر في أي حاجة دلوقتي ممكن؟
– “تنهدت طويلاً” .. ماشي يا ستي ممكن..
– متقلقش، جايز كل حاجة تبقي زي ما كنت بتتمني..
“ابتسمت لها بكل أمل بداخلي”
– بجد يا أمنية؟ يعني ممكن في يوم من الأيام تحبيني؟
ف نظرت لي نظرةً لن انساها، أعلم تلك النظرة جيداً
” مسحت خدي بيدها في حنانٍ” ثم قبلتُ يدها
ف قالت..
– كل شئ جايز يا عز.

شاهد أيضاً

عندما يتوقف المطر … بقلم: مريم الشكيلية – سلطنة عُمان

عدد المشاهدات = 6557 عندما التقيتك أول مرة في ذاك اليوم الربيعي الهادئ على الجانب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.