الجمعة , 26 أبريل 2024

چيهان جمال تكتب: حديث الصباح والمساء..!

= 1917

فى مشهد عبقري يفيض بتفاصيل عظيمة المعنى على الرغم من كونها لا تخلو من الألم ..

يتلهف ” داوود باشا ” على رؤية أحفاده ، وهو الذى حَرم على نفسه ، وعلى شيخوخة أيامه ، و لياليه أن تتدثر بالونس بهم ، ولو لبعض الوقت حين يٓدق خريف العُمر الباب.

إذ اختار بكامل إرادته منذ البدايات أن يقع فى شطط المحظور .. فما وقع فيه لم يكُن حُب حقيقي بالمرة لكنها الأنانية المطلقة بلا ضابط ، ولا رابط لذا احكمت قبضتها بعد أن أعانها عليه تيه نفسه ، وانقسامها.

فيبدأ المشهد برجل كهل يقرر ذات صباح باكر جداً أن يذهب لرؤية أحفاده.

وماهو إلاَ زائر غريب كما كتب على نفسه يٓدق على الباب الذي أغلق فى وجهه منذ سنوات بعاده جميع نوافذ الذكريات.

يدخل بقدميه التى أثقل العجز خطوها، وهو يتكىء على عكازه المستند على ماتبقى له عند ولده الوحيد من رصيد الأبوة ..

تتحدث عيناه عن ألم عذاب البعاد، والحرمان من النٓفس الدافء ، وصُحبة الونس لهؤلاء الذين يسكنون هنا ، ولا أحد سواهم .. وهو البعيد عنهم هناك.

ليقف حائرا فى وسط البهو الكبير ، وتقف أمامه خطاياه الإنسانية التي ارتكبت في حق ولده المنقسم المشاعر كما عودته ليالي بعاد أبيه .. لكنه بمنتهى الوعي الإنساني ينتصف المسافات كما اعتاد قلبه ..

ثم تفر من عيناه رغماً عنه تلك النظرة المندهشة دائماً من والده ، وكذلك من تلك الزيارة المفاجئة التى صدمه بها من بعد كل هذا الغياب .
ليستسلم الإبن ، وهو لايعيي إن كان فرحاً بزيارة أبوه .. ام أنه لازال ذلك الخائف على مشاعر أمه ، والحائر في أمره مابين أبيه ، وبين رد فعل أمه ، وبخاصة بعد أن وصل لهذا العمر.

فأمه مهما كبرت فهي لازالت ذات الأنثى ، وبذات المشاعر فالمشاعر لاتعترف على الإطلاق بعدو السنوات الجارف ، والغير عادل.

لذا لازالت هي الهانم التى تركها زوجها الطبيب إبن الطبقة المتواضعة ، وراح يرتمى بين أحضان جاريتها.

متعللاً بأن تِلْك الزيجة كانت صرخة احتجاجه على دنياه التى اختطفته باكراً جداً من ذاته ، ومن الأهل ، وقسمته إلى نصفين بعد أن أخرجته من عباءة جلده .، واقتلعته من جذوره.

ومن بعد اللحظات التي فاتت على الإبن البار ، و كأنها الدهر لم يجد أمامه مفر غير أن يستسلم لفعلة أبيه على استحياء كعادته معه فى كُل مراحل حياتهم الصادمة.

ليبقى الإبن على ذات الحال منذ أن كان صبياً صغيراً لاحيلة له سوى أن يظل رهين محبسين محبتهم ككل سنوات عُمره التى تبعثرت بينهما ..
فتجده حائر بأحيان .. وجائر فى غالب الأحوال على أبيه رغما عنه.

فتوزيع قسمة مشاعر القلوب بالعدل ، والأنصاف لها أصول ، وقواعد شط عنها الأب كثيراً .
ليعيش الإبن عُمره كله مشدود حد التمزق بينهم مخذول الوجدان..

حٓاله كحال الكثيرين ممن وضعتهم الأقدار فى تِلْك المِحنة.

ثم يسأله الأب بصوت ملهوف بفعل الحنين .. مرتعش بفعل الجفا الذي كان صنيعة أيام بعاده عنه
-فين الولاد ؟
ليجيبه الإبن الذى استمات فى أن يحافظ على أن يكون باراً به .، ويقول :
-خرجوا كلهم للأسف ، ومفيش في البيت غير الصغيرة .

ثم يأتى بها لوالده كٓى يروى بها بعض من عطش الحنين.

ليركع الجد على قدميه التى ذهبت بِه يوما ما هناك عند مفترق الطرقات .
وتعود لتهوى به الآن على تِلْك الأرض التى كانت هى الأصل ، والجذور ..
لكنه نزع نفسه عنوة لحظة أن تشبثت بالحلم الزائف.

ليتحدث إلي طفلته الصغيرة بصوت آبكاه الآنين ، وآضناه الحرمان من ملامسة أنفاسها البريئة .
فتخرج الآهة من صدره حارقة مشتاقة .. فيِقبل خصلات شعرها ، ووجهها الملائكي البرىء ، وهو يتقلب على جمر الحرمان …
وكأنه راح يعلن للدنيا أنه التائب من أنانيته وهوسه بذاته..

وها هو يتمرغ عائداً بين ملامح الأيام فيشم رائحتها فى لهف موجوع .. وحُب موجوع .. وانكسار موجوع .
ثم يتركهم بعد أن ارتوى بعض الشيء .، لكنه لم يستطع أن ينفصل عن الشعور بالانهزام ..

ليسير مسكين مكتوي بالحيرة ، و الندم من كل ما كان صنيعة يديه التى باتت تشتاقهم فى كُل لحظة لتلملمهم فى حُضن أكف شيب الأيام ، وللأسف لن يجدهم .
يعود ” داوود باشا ” و لا يجد غير صنيعة غرور صباه ، وشباب أيامه المتعجرفة التي خرجت عن المألوف لتضعه بمرور السنوات دوماً في خانة الخذلان .

يعود ، ولم يبق منه غير غربة مشاعره ، وثمة وجع يئن ، ويتمرغ بين أكف يديه التي يراها الآن خاوية الوفاض .
لم يبق منه غير الفقد هو الآن يفتقد نعمة حُضن البيت التى لا يشعر بها سوى من أنعم الله عليه بنعمة دفء المحبة ، وونس الأحبة .، وربما لايشعر بها على الإطلاق آخرين عاشوا تحت سقف دفا العيلة ..

أو من الممكن أن تجد من يشعر بها ممن ابتلى بافتقاد عزيز .. أو ابتلى بالحرمان من دفء العائلة لأسباب وجيهة .
و بالنهايات لم يبق من داوود باشا غير الفقد
ثم نرى داوود باشا حين عودته بهذا المشهد الآخر ..
الذى يجمع بينه ، وبين ” نعمة ” زوجة أخيه ..

و قبل أن يتوفاه الله بلحظات ينام نومته الأخيرة فى حجر ” نعمة ” كالطفل الصغير ..
لندرك أن هذا الرجُل كالكثيرين ممن عاشوا بهذه الدنيا .. إذ عاش داوود ، ومات طفل كبير .
وفى عبارات بليغة .. يعبر بهَا عن حال أهل الدنيا ، وعن نفسه .، ويقول :

– كلنا فى الدنيا دى مسافرين .
ركاب قطر ..
كُل واحد بتيجى محطته بينزل .
وانا عشت طول عمرى مسافر ..
مسافر سفر طويل ..
غريب فى وسط أهلى ، وناسى ..
لا عارف جاى ليه !
ولا رايح فين !

ينتهى هذا المشهد العبقري ليترك أثر الغربة المؤلم في النفوس حين يكون بفعل صاحبه ، أوَ حين يكون بفعل تِلْك الأسفار التي غالباً ما تكون بفعل الظروف ، والبحث وراء لقمة العيش التي تجبر الكثيرين على الغياب المؤلم ، و تناسي الأصل .

لتصير الرسالة أنه تحت أي ظروف لاداعى للشتات ، والإنقسام ، والغربة عن النفس كما فعل داوود باشا بنفسه ليقع بالمحظور ، والندم وقت لا ينفع الندم .

ليستحث الجميع العظيم المبدع الراحل الأديب نجيب محفوظ أن يستفيدوا من الدرس الكبير للحياة ، والذي كان ينبىء به حديث الأيام فى كُل صباح ومساء .. حين تمضي الأيام بحلوها، ومرها بالإنسان، وتسحب معها بساط السنوات بغمضة عين …

وكأنها الرسالة المتمنية للجميع بكل ما فيهم من مزايا، وعيوب أن يصلوا قدر المستطاع لبر الأمان .. فالكمال لله وحده.

شاهد أيضاً

الجمعة المقبل.. افتتاح جناح سلطنة عُمان في بينالي البندقية الدولي للفنون 2024

عدد المشاهدات = 8273 مسقط، وكالات: تشارك سلطنة عُمان يوم الجمعة القادم بجناح في الدورة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.