الجمعة , 29 مارس 2024

“قيد من حرير”..قصة قصيرة للدكتورة منـى حسيـن

= 1848

حين تضيع منا الأحلام ، يصدمنا الواقع ، وتهاجمنا الآلام ، تقتل أجمل ما فينا من حب وهيام ، تفارقنا البسمة ، وتعلو ملامحنا الأحزان ، لنرسم مسارات لا تحيد ، تجبرنا على إكمال الطريق ، مهما كان الضيق ، أو نرحل عن من أضاع منا الحلم .خيارات نراها ، لكننا نفقد البوصلة ونئد القلب ، ليصنع العقل ما يشاء .

أعلم أنى من فعلتها ، لكنى سأهرب من العقاب ، فأنا من دسست له السم ، هو من أذاقنى المرار منذ أن إمتلكنى ، كنت حبيبته أو كما زعم روحه ، حين أغيب عنه يكون كالثور الهائج ، إن حدثنى يلومنى ، وإن إعتذرت بأسباب ينهرنى ، وحين أعود وأعانقه ، يكاد يبكى على صدرى .
لكنه يكمل ما بدأه من عنف ، أصبر على ضيقه لأننى أعرف أن حبه لى هو ما يدفعه إلى الغضب ، لكنى ضقت بقيوده ، إحتملته كثيرا ، هو إبنى وحبيبى ، يغار على من الهواء الذى أتنفسه لأنه يدخل صدرى ويسكننى .

أحاوره وأقنعه أنى بحبه أهيم ، لا أرى فى البشر مثله ، هو روحى وعقلى ، أطالبه أن يهدأ وأسترضيه ، أضمه لصدرى وأربت على كتفه ، وأقبل وجنتيه ، لينقلب مائة وثمانون درجة ، يعانقنى ، يكاد يشق صدره ليدخلنى بدنا كاملا بقلبه ، تقطر عيناى الدمع من الحب تارة ، ومن غضبى من ثورته تارة آخرى ، أستسلم بين يديه ، كأننى دميته وأرقبه ، كل هذا الحب لى ؟

لكن عقلى لا يهدأ، إلى متى يعاركنى بثوراته المتتالية ؟ثورة بسبب حديث فى الهاتف ، وآخرى بسبب محادثة على الفيس بوك ، وغيرها بسبب تكرار رقم على شاشة هاتفى ، أبرر وأبرر، وأحيانا أشعر أنى فى أمس الحاجة إلى محام يرد عنى إتهاماته .

ماذا بعد ؟ نعم أحبه وأتمنى ألا يفارقنى لحظة من حياتى ،لكنها الحياة بكل ما فيها من أدوار وحوارات لا تنتهى مادمنا بها نحيا ،تأخذنى منه كما تأخذه منى ، أنا أصبر وتلاحقه همساتى فى كل مكان يذهب إليه ، وأتمتم له بالدعاء والبسملة ، وهو فى كل مرة أغيب عنه يلاحقنى بسيل من الاستفهامات والضيق ،أوضح وأشرح ، حتى يهدأ إلى أن أعود .

هدانى عقلى إلى أن أدربه حتى أبعد عنه هاجس الفراق ، فاعلمته أنى مكلفة بمهمة خارج البلاد ، مع العلم انى دائما كنت أرفض هذا النوع من المهام ، إستشاط غضبا، كيف؟ هذا تكليف ، ولا يوجد من يقوم به غيرى ، فانا من وقعت العقود وعلى أن أتابع تنفيذها ، وإعداد التقارير عن مدى مطابقة الماكينات لما أوردته الشركة فى العقود ، كاد ينهرنى وبدلا من أن يناشدنى الا اتاخر ، إسودت الدنيا بعينيه ، وطالبنى أن أعتذر عن هذه المهمة .
قلت له ليس هناك أى بديل ، تركنى وخرج ، وعاد بعد ان خلدت للنوم ، كلما نظر إلى شنطة السفر التى أخرجتها لأودع بها ما أحتاجه ، يزحزحها ، أو يلقى عليها ما يخفيها من امام عينيه ، أعرف مدى ضيقه وحزنه على فراقى ، لكنى سأفعلها ربما تصلح من حاله .
وفى يوم السفر رايت بعينيه دموعا لم أرها منذ أن عرفته ، كدت أتراجع عن قرار السفر ، كأنه طفلى ، ربما لا أصنع له كل ما يطلب ، وربما يفعل هو كل ذلك حين أغيب عن بيتنا ، فأراه أعد لى ما أشتهيه ، ورتب بيتنا ، حتى لا يشغلنى أى شىء عنه حين أعود ، فأسأله لم فعلت كل هذا ؟ يبتسم حتى لا تهدرى وقتك معى فى عمله ، حتى تكونى لى ، ويتوقف عقلك عن التفكير فى مثل هذه الصغائر ، أبتسم .
قلبى يؤلمنى إن إختيارى هذا قاس ، لكن لا مفر ، سأنفذه ، عانقته ودخلت أكمل إجراءات السفر ، حبست دموعى أمامه ، وبعد أن جلست فى صالة الإنتظار حتى يحين موعد الطائرة ، سالت دموعى كالأنهار ، كأنى فارقت طفلى الرضيع ، من سيعتنى به؟ من سيهدهده ؟ أأعاقب نفسى أم أعاقبه ؟ هذا ما فعلت .
لكنه ظل واقفا داخل ردهات المطار يهاتفنى ، شعر بدموعى ، وببحة صوتى ، وكانت رسالتى أننى أتألم مثلك ربما أكثر منك ، لكنها أيام وسأعود ، ليتها تغير ما بك حتى تكف عن ملاحقتى وتعنيفى .
لم يصمت هاتفى ،ولم ينهى مراد مكالمته حتى أعلنت المضيفة بالطائرة عن ضرورة إغلاق الهواتف ، أعلم أنها لحظة يكاد قلبه أن يتوقف فيها عن النبض ، وأنا مثله ، لكنه إختيارى ، عندما بدأت الطائرة فى الارتفاع عن الأرض والتحليق فى السماء ، كانت عيناى تتفقد الأماكن، وأكاد أراه يحلق على جناح الطائرة . تمتمت بآيات قرآنية ودعوت الله أن يحفظه ويعيده لى كما أريده ، حبيبا يحتوينى ويروينى .
حين وصلت الطائرة إلى مطار برلين ، فتحت هاتفى ، كى أتواصل مع الشركة التى سأتم تنفيذ عقودى معها ، فوجدت مندوب الشركة بإنتظارى ، بقى أن أطمئن على حبيبى ، هاتفته وكأن صوته يأتينى من عالم آخر ، أخبرته أنى وصلت ، وسأبدأ عملى بعد ساعة ،
كنت أشعر بدموعه وببحة صوته ، فكلامه كان قليلا حتى يخفى عنى حزنه ،أشعر بما يعانى وأتألم مثله لكنى أعلمته أنى سأختصر رحلتى قدر إستطاعتى ، لأننى دونه هنا بلا روح أو حياة . أنهيت مكالمته ودموعى لا تجف .
خرجت من المطار وتوجهت إلى مقر الشركة مع مندوبها ، وبدأت عملى من أول لحظة ، وحددت موعدا فى الغد لفحص الماكينات ، والتأكد من مدى مطابقتها للمواصفات المدرجة بالعقود ، أتممت يوم عمل وسفر شاق ، ذهبت إلى الفندق كى أستريح ، وما أن وصلت إتصلت بمراد ، وسردت له ما فعلت من لحظة أن تركته بالمطار حتى لحظة محادثته ، وأخبرته أنى احتاج للراحة الآن .
كان يسمعنى دون ردود ، وكانت ملامحه متجسدة أمامه ، أعلم مدى حزنه لفراقى ، أنا مثله ، لكنى أخاف عليه ، ماذا سيحدث له إن فارقت الحياة ؟ أغلقت هاتفى ورحت فى نوم عميق.
لكنى استيقظت فى منتصف الليل ، ففتحت هاتفى وفتحت صفحتى على الفيس بوك ، وجدته وكأنه على موعد معى ، ضغطت على المحادثة بالصوت والصورة لكنه فضل أن يرانى ولا أراه ، وبعد إلحاح منى فتح الكاميرا ، كأنى لم أره منذ عام ، وكأنه مريض منذ شهور ، أمازلت مستيقظا ؟
أجابنى : نمت عدة ساعات
أعلم أنه يكذب حتى لا أقلق عليه
حكيت له ماذا فعلت بيومى وماذا سأفعل غدا ، أرى بعينيه ما لا يقوله ، أتماسك وأكمل روايتى ، وبقلبى شرخ وبعينى دموع أخفيها ، ودعته لأنام مرة آخرى ، حتى أتابع عملى بعد بضع ساعات ، أغلقت هاتفى لأنام .
أعددت ملفاتى ونزلت لأبدأ جولتى بالشركة والمصنع وغيرهما من أماكن عملى ، وكانت بصحبتى مندوبة الشركة ، يوم عمل شاق ، لم أشعر كيف مرت كل هذه الساعات إلى أن عدت للفندق وألقيت بجسدى على الفراش ، لا أعلم كيف نمت بكامل ملابسى .
لكنى إستيقظت فى الثانية صباحا ، فتحت النت بهاتفى ، فوجدت عشرات الرسائل ، مراد لم يهدأ ، فضغطت على المحادثة ، ووجدته صامتا ، ووجهه شاحبا ، حاولت التخفيف عنه ، فرويت له ما قمت به من أعمال ، حاولت إنتزاع حتى بسمة من شفتيه ، رسمها ، لكنى أعلم أنه فضل عدم الكلام ، حتى لا تظهر عليه علامات الحزن والقلق ، كدت أروى له حكاية قبل النوم ، كدت أبكى على حاله ، وألوم نفسى ندما على قرارى .
إلى أن بدت عليه علامات النوم ، فقد أشرفت عينيه على أن تغمض ، لو كان بيدى لاحتضنته وغطيته وضممته لصدرى ، وربت على كتفه ومسحت على رأسه ، حتى يغوص فى نوم عميق ، وعدت أقبل جبينه وشفتيه وكفيه ، لكنها الآمال المحالة ، ودعته حتى يخلد للنوم ، وأنا أيضا لأن لدى الكثير من الأعمال فى الغد الذى بدأ بالفعل قبل أن نتحدث .
أغلقت هاتفى وحاولت أن أنام ، لا أعرف كم من الوقت نمت، لكنى إستيقظت بعد ساعات قليلة ، لأبدأ يوم عمل آخر، أخذتنى الاجراءات والتنقلات والحفلات الرسمية لتنفيذ العقود ، والاجتماعات ، إلى أن عدت إلى الفندق، تكرر نفس السيناريو معى ، وارتميت على فراشى بكامل ملابسى ، لم أدر بنفسى إلا بعد الفجر .
كيف مرت هذه الساعات دون أن أحدث مراد ؟ فتحت النت فى الموبايل ، وجدت مراد ترك لى العديد من الرسائل ، طلبته كى أسمع صوته ، أجابنى بصوت لا أكاد أسمعه ،
هل أنت نائم ؟
= لا
ماذا بك
= لا شىء أنا بخير ، كيف أمضيت يومك ؟
رويت له ما مررت به ، وفى صوتى نبرة إعتذار
ودعته والألم يعتصرنى ، لم يحك شيئا لى ، ماذا يفعل فى يومه ؟ كان مستسلما يسمع ما أقوله ولا يعلق ، وأنا أحكى حتى أراه أطول فترة ممكنة .
لم تغب ملامحه عنى ، ولم يهدأ قلبى حزنا على ما آل إليه حاله ، هو حبيبى وقرة عينى ، هو إبنى قطعة منى ، أتنهد وتكاد تنهيدتى تحرق ما حولى ، فبداخلى نار غضب من نفسى ، كيف هان على ؟ كيف إتخذت قرارى هذا؟ هل كنت أعاقبه أم أعاقب نفسى ؟
خمسة أيام مرت ، رسمت على ملامحى كل علامات الحزن ، كسرت بقلبى فرحتى بإتمام عملى على الوجه الأكمل، لكنها مرت ، غدا سأعود لروحى التى تركتها ، وعشت دونها جسد آلى ، يتحرك حسب جدول ، بلا احساس أو مشاعر ، سوى الدقائق التى كنت أحدثه فيها ، لكنها كانت فى أوقات أكون فيها شبه نائمة ، وإلا لما احتملت أن تفصلنا عن بعضنا شاشة أو أثير ، لكنها مرت بحلوها ومرها .
نهضت من فراشى وانتقيت أجمل ملابسى ، بعد أن تأكدت من إعداد حقائب السفر ، فقد انتقيت لحبيبى أجمل الهدايا التى يحتاجها ، وإن لم يطلب منى شيئا ، صدمته من قرار سفرى لم تجعله يطلب منى أى شىء ، لكنى أعلم ، فأنا من أعد ملابسه ، وأنا من أتخير له ماذا يلبس اليوم ، وإن كنا سنخرج سويا ، نرسم تابلوها معا بألوان ملابسنا .
أرسلت رسالة صوتية بموعد وصول الطائرة ، لأنى أعلم أنه نائم الآن ، نزلت مسرعة فأنا على موعد مع حبيبى بعد ساعات ، أتممت الإجراءات ، وصعدت الطائرة ، يكاد قلبى أن يسبق الطائرة ، أبحث عن بيتى وعن روحى التى تركتها منذ أيام تعادل سنينا ، تسارعت دقات قلبى ، دقائق وأعانقه ، سأعتذر كثيرا عن قرارى ، سأقبل وجنتيه ويديه سأعده أنى لن أكررها ثانية وسأقسم على هذا .
ما أن هبطت الطائرة ، وقفت أمام بابها أتصدر كل ركابها ، سانزل أول واحدة منها ، سأدخل الجوازات وأتمم الاجراءات ، وأحمل حقائبى ، سأخرج للقاء حبيبى ، ما أن خرجت من باب المطار ، قبل أن أرفع عينى لأبحث عنه ، كان يحاوطنى بذراعيه ويعانقنى ، عانقته وقبلته ، وقتها سالت دموعى فرحا به وإعتذارا عن رحلة أبعدتنى عنه أياما سأسقطها من عمرى لأنى لم أعشها .
إصطحبنى لبيتنا ، كنت أتفقده ، وعيناه تسألنى ، كيف هان على وتركته ؟ وعيناى تجيبه كأنها تحتضنه كذراعى ، بأنها غلطة عمرى ولن أكررها ثانية ، ما أن دخلنا البيت جلس دون حوار ، أقبلت عليه أقبله وأعانقه ، وهو لا ينطق ، فقط ينظر لى ، حاوطنى بذراعيه ، وهو صامت .
تغير لونه ، إرتمت ذراعيه لتفارقنى ، فقد أغشى عليه ، حاولت إفاقته ، وطلبت طبيبه ، لكنه عندما حضر ، طلب سيارة إسعاف فحبيبى قلبه لم يحتمل غيابى عنه ، كما أنه حرم على نفسه كل شىء لوكان بيده لما تنفس .
إنتقلنا إلى المستشفى و بدأت حالته تتحسن ، وأنا الازمة ، لم أتركه لحظة واحدة ، فى أول الأمر كانت عيناه تعاتبنى ، وكنت أعتذر ، أما بعد أن تحسن عادت لى نظرات حبه ، فحين أقبل وجنتيه ويديه ، يربت على رأسى ، وأخيرا نفض المرض عن قلبه ونهض ، كنت قد غفوت على كرسى بجانب سريره ، لم أشعر إلا بأنه يغطينى ويحتضننى ، تنفست حبه ،
قبل إعتذارى ، عدنا إلى بيتنا ، وفى عينى ندم على فعلتى ، ساعتها أدركت إنه لم يكن قيدى ، بل كان القلب الذى يحتوينى، ولا يهدأ أبدا إن غبت عنه ، يلاحقنى ، وعندما أعود يزفر فى وجهى قلقه فى ضيق وعنف ، كنت ساعتها أحزن ، الآن فهمت ، وندمت على سم تجرعته وجرعته له ، أنا له وبه ، فليغفر لى ما فعلت .
عدنا كما كنا حبيبين تملؤنا الأشواق والحنين ، نسعد بحياتنا ، وأمام عينى خطأى ، لا أغضب من قلقه على ، بل أصبحت أفسره كما رأيته وعشته ، أنا حبيبته وهو حبيبى .
لكن قلبى مازال يلومنى على فعلتى ، وينهرنى ماذا لو راح منك؟ كيف كنت ستعيشين ؟ ذنب لا يغتفر ، لن أسامح نفسى عليه طيلة حياتى، وكل همى أن أكفر عن هذا الذنب ، أعانقه وفى عينى دموع أخفيها ، وفى قلبى ألم أداويه . سأعوضه عن رحلتى بعمرى كله ، لن أغيب عنه أبدا ما حييت ، سأحتمل غضبه وضيقه منى لأنهما حب أكثر مما كنت احسبه .

شاهد أيضاً

عندما يتوقف المطر … بقلم: مريم الشكيلية – سلطنة عُمان

عدد المشاهدات = 6359 عندما التقيتك أول مرة في ذاك اليوم الربيعي الهادئ على الجانب …

تعليق واحد

  1. قصة رومانسية جميلة
    ماليئة بالمشاعر والاحساس الرقيق
    ماشاء الله على اسلوبك

اترك رداً على حاتم احمد إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.