الجمعة , 29 مارس 2024

د.علا المفتي تكتب: “وهم الزمن الجميل”!

= 1626

ذات مرة ذهبت للتسوق، في صباح يوم شتوى شمسه دافئة حنون، وإذا بي أمر بالمصادفة أمام باب مدرستي الابتدائية، فأجبرتني الذكريات على الوقوف، وأبت قدماي أن تسير خطوة واحدة أخرى إلى الأمام، وخطفت تفاصيل المبنى والفناء بصري، وسافرت في الزمن حتى وجدتني أتحول فجاة لتلميذة في الصف السادس، تقف في طابور الصباح، وتستمع إلى فقرة النشرة الجوية ودرجات الحرارة، التي تذاع في إذاعة المدرسة كل يوم، تلك الفقرة التي تمنيت مرارا أن أقدمها في الإذاعة المدرسية، فقد كنت مغرمة بهذه النشرة ولا أدري لماذا؟ لكنني لم أحقق تلك الأمنية يوما، وقدمت بدلا منها فقرة الحديث الشريف.

كان رجل الأمن الذي يقف على باب المدرسة، يراقبني في توجس وقلق باد، وفجأة أخرجني صوته الأجش بكل عنف، من مشهد الطفولة الماضية إلى تفاصيل الحاضر، فاعتذرت وشرحت له باختصار أنني كنت طالبة في هذه المدرسة، فانفرجت أساريره مرحبا، وذكرني ببعض أسماء العاملين بالمدرسة، من معلمين ومدراء وعاملين، عساني أعرف أحدهم. وتبادلنا حديث قصير مفعم بالذكريات، ثم سلمت عليه وانصرفت وأنا أشعر ببهجة مخلوطة بمرارة خفيفة، فهكذا هي نكهة الحنين.

تذكرت هذا الموقف الذي حدث لي منذ عامين تقريبا، عندما دار بيني وبين أحد الأصدقاء مناقشة لطيفة، عن ذكريات الماضي الخاصة بكل منا، وكم نتمنى العودة لهذا الماضي بكل ما فيه من تفاصيل. وجرنا الخيال إلى تمنى العيش والحياة في حقب تاريخية بعينها، والهروب من الحاضر البغيض بكل مشاكله وقلقه وضغوطه. وكم حسدنا غيرنا من جيل الأجداد والآباء، لأنهم عاشوا زمانا أبهج وأهدء وأجمل من زماننا. فلقد أصابتنا أنا وصديقي الذي أعتبره أخي الأصغر، حالة “النوستالجيا” أو الحنين إلى ماض مثالي، الحنين الجارف للذكريات، لكل الذكريات والتفاصيل الماضية وخاصة الصغيرة منها، كنوع ألعاب الطفولة والحلوى المفضلة وبرامج وأغاني الأطفال التي أحببناها، وأماكن النزهة التي ألفناها إلخ.

ومن أعماق الحنين باغتني صديقي بسؤال: تفتكري دلوقتي أحسن ولا زمان أحسن؟

أجبته على الفور: دلوقتي طبعا.

اندهش صديقي لجوابي هذا وقال: دلوقتي زمن صعب كله ضغوط وتوتر، وبعد عن الأخلاق والإنسانية، لكن زمان كان زمنا جميلا فيه هدوء واستقرار واحترام إلخ إلخ.

فقلت له: صحيح بس دلوقتي الحياة أيسر وأسهل كتير من زمان رغم توترها وتعقدها، وفيها خيارات غير محدودة، والدنيا بقت مفتوحة ورحبة، مش منغلقة وضيقة ومحدودة زي زمان.

فقال متسائلا: يعني تفتكري أطفال اليومين دول لما يكبروا هيعتبروا الوقت اللي احنا فيه ده دلوقتي هو الماضي الجميل ونبقى أحنا عايشين دلوقتي الزمن الجميل؟

فابستمت قائلة: وليه لأ؟!

حقا يا صديقي إن الماضي جميل، لكن نحن من جملناه في مخيلتنا لأنه مستودع الذكريات الدافئة والسعيدة، ذكريات مرح الطفولة وعدم تحمل المسئوليات، وزمن كل متعة حرمنا منها. الزمن الذي عاش فيه أناس أحببناهم وفارقونا، لهذا نراه زمنا جميلا، لكننا نسينا أن الكبار الذين عاشوا هذا الزمن، كانوا يلعنونه أيضا ويرون في ماضي آبائهم زمنا جميلا أيضا. وكلما رجعت في الزمن يا صديقي ستجد هذا الشعور وتلك الفكرة، تتكرر مع أصحاب كل زمن ضاقوا بحاضرهم، وحنوا إلى ماض سعيد عاشوه، أو ماض تخيلوا أنه سعيد وتمنوا أن يعيشوه.

إنها أكذوبة “الزمن الجميل” التي خدعنا بها أنفسنا لندخل البهجة على نفوسنا، في حاضر نكافح مع منغصاته المستمرة كل لحظة، وذلك لأننا نسينا أو تغافلنا عن رؤية إيجابيات حاضرنا، وركزنا فقط على سلبياته. نحن لا نحن للماضي لأنه أفضل أو أجمل، ولكن نحن إلى النعم التي منحت لنا في الماضي وسلبها الحاضر، فإن لكل زمن وعصر سلبيات وإيجابيات ومميزات وعيوب. كما أنه “كل ميسر لما خلق له” فلن نكون سعداء إذا ركبنا آلة الزمن، وعدنا للخلف لنعيش عصورا لم نخلق فيها أو لها ولن نستطيع التكيف معها. فلنصنع لأنفسنا إذن من الحاضر زمنا جميلا ننعم به، ولنحرر عقولنا من وهم الماضي الجميل.

——————

* مدرس أدب وثقافة الطفل – كلية بنات جامعة عين شمس.

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: سندوتش المدرسة.. صدقة وزكاة

عدد المشاهدات = 6932 لا ينكر إلا جاحد ان الشعب المصرى شعب أصيل، شعب جدع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.