الخميس , 25 أبريل 2024

د. علا المفتي تكتب: “حاميها حراميها”

= 1303

في صباح باكر جدا، منذ أعوام طويلة كثيرة مضت، وقفت أرتدي ملابسي على عجل وقد بدا علي التوتر والقلق، ثم سارعت إلى باب الخروج فاستوقفتني أمي رحمها الله طالبة مني تناول وجبة الفطور قبل الخروج، إلا أنني رفضت تلبية طلبها على استحياء، متعللة بضيق الوقت وفقدان الشهية، وطلبت منها الدعاء لي بالتوفيق، فردت قائلة: ربنا ييسر لك كل عسير، بس افتكري “من غشنا فليس منا”. خرجت مسرعة للامتحان وتحذير أمي يرن في أذني، ويتردد صداه في قلبي، فشعرت بوجل ورهبة.

ما ذكرني بهذا الموقف مرورنا هذه الأيام بموسم الامتحانات. وحيث أن الامتحانات جزء أساسي من عملي – باعتباري عضو هيئة تدريس جامعي – فإني أرى كل يوم الجديد والغريب والمبتكر، في وسائل الغش التي يلجأ إليها بعض الطلاب. وذلك لا يعد مستغربا، فقد اعتدت أن أرى مثل هذه الأمور منذ أن كنت طالبة وحتى الآن. لكن ما تعجبت له حقا أن أرى نماذج غريبة وشاذة من البشر، الذين يشجعون الطلاب على الغش ويسهلونه لهم، حتى أصبح الغش في الامتحان حقا مكتسبا للطالب، وإذا سولت لك نفسك على أن تمنعه من الحصول على هذا الحق المزعوم، هاج وماج ودافع عنه بكل شراسة.

والعجيب في الأمر، أنك قد تجد من ينبري دفاعا عن حق هذا الطالب الغشاش قائلا: سيبوهم حرام عليكوا خليهم يعدوا من الامتحان، عشان خاطر أهاليهم فوتوا لهم المرة دي. والأدهى من ذلك أن صاحب نظرية “فوتوا لهم المرة دي” الذي يدعي العطف والرحمة، هو مراقب لجنة الامتحان، الذي من واجبه الأساسي منع حالات الغش واكتشافها.

فإذا كان هذا هو حال بعض العاملين في الامتحانات، فما بال حال أسر الطلاب الغشاشين يا ترى؟

وللإجابة على هذا السؤال أعود بذاكرتي، إلى حوار استمعت إليه منذ فترة بين أم وابنها الذي يدرس في المرحلة الابتدائية، حيث كانت الأم تعطي ابنها تعليمات ما قبل الدخول إلى لجنة الامتحان، فنظرت إليه بجدية وقالت له بكل بساطة: لو ماعرفتش تحل أي سؤال أبقى شوفوا من زميلك اللي جنبك..كما أذكر أما أخرى كانت تنهر ابنتها بعد الامتحان، لأنها تركت سؤالا لا تعرف إجابته قائلة: ما سألتيش زمايلك في اللجنة ليه؟؟!!
هذا بالإضافة إلى سماعي دعوات الكثير من الأمهات لأبنائهم قبل الامتحان: “يا رب حظ ابني يبقى سعيد ويكون المراقب مش شديد”.

إننا نملأ الدنيا عويلا واحتجاجا كل يوم، شاكين من انتشار الفساد في المجتمع على اختلاف طبقاته ومؤسساته. ونرى في الأجيال الجديدة نموذجا واضحا للتردي الخلقي والفكري. ونتسائل في دهشة وبراءة تامة لماذا يشيع الفساد في مجتمعنا هكذا؟؟!! ونتحسر على الزمن الجميل، زمن القيم والفضائل والأخلاق، ولم نفكر لحظة أننا من فعلنا ذلك في أنفسنا، فنحن نعيش زمن “حاميها حراميها”.

فالألم التي تشجع أبناءها على الغش، وكأنه أمر عادي وحق من حقوق الأبناء، ومراقب اللجنة الذي يسمح للطلاب بالغش ويتغافل عنهم، بل وأحيانا يساعدهم في نقل الإجابات من بعضهم إلى بعض، ما هم إلا حماة لأمانة قاموا بسرقتها علنا. فتلك الأم تقتل شخصية أطفالها وتضعف نفوسهم بسلبها القيم النبيلة منهم، وبث قيم فاسدة فيهم. وهذا المراقب يعطي رسالة ضمنية للطلاب، أن المهم تحقيق الهدف بغض النظر عن الاهتمام بطرق تحقيقه، هل هي مشروعة أم لا “فالغاية تبرر الوسيلة”، والمهم هو اجتياز موقف الامتحان بأي طريقة ممكنة.

إن هؤلاء صبوا اهتمامهم على الامتحان الدنيوي، ونسوا أو تناسوا أنه جزء من الامتحان الأخروي، فقد طلبوا الدنيا ونسوا الآخرة، وأشاعوا الفساد وتعمدوا الإفساد. إنهم يدمرون الأجيال الجديدة ويهدمون المستقبل.

فلنتذكر أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. ولنسأل أنفسنا أما آن الآوان لنغير من أنفسنا وننقذ مجتمعنا من هؤلاء؟؟!!

———-

* مدرس أدب وثقافة الطفل – كلية البنات جامعة عين شمس

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: فجوة بين الشباب ورجال الدين

عدد المشاهدات = 3292 منذ فترة طويلة وانا اشعر بوجود فجوة عميقة فى العلاقة بين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.