الجمعة , 29 مارس 2024

د.علا المفتي تكتب: “التفاحة الناقصة”..!

= 1511

نظرت إليَّ بغضب ونهرتني قائلة: حسني خطك، ووصلي الحروف ببعضها في الكلمة. هكذا وبختني معلمتي عندما كنت في الصف الخامس الابتدائي. فقد ضاقت بي ذرعا لأن خطي كان كبيرا، وغير منمق على الإطلاق، وكنت أترك فراغات في كتابة الكلمة، فقد اعتدت ألا أصل حروف الكلمة تماما ببعضها البعض. واعتادت معلمتي، أن تملأ فراغات كلماتي بقلمها الأحمر. لكن معلمتي لم تدر أنها كانت تزين كلماتي الناقصة بلون بهيج جعل منها كلمات مميزة.

كان توبيخ معلمتي يطاردني كلما شرعت في الكتابة. فأصبحت أراقب كلماتي وأنا أخطها على الأوراق، وأحاول ملأ الفراغات قدر المستطاع، حتى تكونت عندي عقدة الكلمات الناقصة، وصاحبتني تلك العقدة حتى وقت قريب. فدوما لدي هاجس يراودني أثناء الكتابة، أن أراجع ما كتبت لأصل الناقص داخل الكلمات، فتخرج الكلمة وكأنها وجه ملأته ضماضات الجروح، فأشعر أن خطي ازداد سوءا.

وبرغم محاولاتي المستمرة في إكمال فراغ الكلمات، إلا أن بعض كلماتي تهرب من حصار إكمال الناقص، وتتمرد على شبح توبيخ معلمتي، فتظهر غير متصلة الحروف، تتخللها فراغات الحرية. لكني عندما تأملت تلك الكلمات المتمردة، كنت أرها أكثر تميزا وجمالا وانسيابية، من مثيلاتها التي أجبرتها على الاكتمال. فكلماتي ذات الفراغات تبدو لي، كوجه فتاة طبيعي الجمال، أما تلك الكلمات التي أجبرتها على الاكتمال، ظهرت كوجه لطخته المساحيق كي يبدو جميلا فزادته تشويها.

إن فراغاتي غير المقصودة في بناء الكلمات، قد أعطت خطي طابعا مميزا لافتا للنظر. فالنقص يشد الانتباه ويجعل من يقرأ تلك الكلمات، يميل إلى إكمالها في خياله، فهي تثير ذهنه، وتسرق انتباهه من باقي الكلمات الكاملة. ولا أعني بوجهة نظري هذه، أن معلمتي كانت مخطئة في تنبيهي لطريقة الكتابة السليمة، ولكن ما أقصده، أن الجمال أحيانا قد ينبع من النقص لا من الاكتمال.

إن فكرة الكمال والاكتمال ترسخت في أذهاننا، على أنها السبب الرئيسي في الجمال والنجاح والسعادة. وأصدقك القول قارئي الكريم، أن تلك الفكرة كانت سببا في تعاستي لسنوات طويلة. فقد كنت أرى دوما أن شكل ابتسامتي قبيح، لأن أسناني الأمامية بارزة بعض الشيء، وفيها اعوجاج بسيط. فكنت أخشى من الابتسام، وأحاول إخفاء ضحكاتي بيدي، ولا أثق أبدا في نفسي أثناء التصوير، فارفض أن ابتسم حتى لا تظهر أسناني، إلى أن نبهتني إحدى قريباتي يوما لذلك قائلة: أنت ليه بتداري ضحكتك بإيدك مع أنها حلوة أوي!

وتكررت تلك الملاحظة لي من أصدقاء وصديقات آخرين، فتغيرت نظرتي لشكل أسناني وابتسامتي، فقد وجد فيها الآخرون جمالا لم أره أنا، لأن فكرة الاكتمال والكمال كانت تسيطر علي.

إن ما ذكرني بتلك التجارب الشخصية البسيطة في حياتي، معلومة قرأتها على موقع “الفيسبوك” مؤخرا مفادها، أن شعار شركة “أبل” الشهيرة وهو التفاحة الناقصة، يشير إلى قاعدة مهمة، وهي أن الجمال لا يعني الاكتمال دائما، وأن النقص قد يكون مصدرا للتميز والإبداع.

إن التجارب الناجحة أو السعيدة أو الجميلة في الحياة، لا يجب بالضرورة أن تقوم على مبدأ الاكتمال، فابحث يا صديقي عن تفاحتك الناقصة وافتخر بها.

————————

* مدرس أدب وثقافة الطفل بكلية بنات جامعة عين شمس.

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: سندوتش المدرسة.. صدقة وزكاة

عدد المشاهدات = 7019 لا ينكر إلا جاحد ان الشعب المصرى شعب أصيل، شعب جدع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.