الجمعة , 26 أبريل 2024

د.علا المفتي تكتب: إهانة كبرى..!

= 1640

كفاك عدواً. كفاك لهثاً. قف من فضلك. إجلس أرجوك. خذ نفساً عميقاً، واهدأ. لا تنظر إلى من لايزال مستمراً، في هذا السباق اللعين. ولا تندم لأنك انسحبت منه. ولتعلم أنك أنقذت نفسك، ونجوت بها، من فخ أكل الكثير من عمرك. إنه سباق دائري لا ينتهي. فمهما حاولت لن تصل إلى خط نهايته. فليس فيه خط نهاية، لكنها بدايات متكررة، تدخلك في دوائر مغلقة. ولا سبيل للفرارإلا بكسر قيد هذه الدوائر.

يا صديقي دعني أعترف لك، وأصدقك القول، أنه لا أحد منا، إلا وقد انزلقت قدماه، إلى إحدى هذه الدوائر المهلكة، وتلك السباقات المنهكة. فإما أن يدفعنا إليها المجتمع دفعاً، أو أننا نلقي بأنفسنا فيها.

إنه سباق المقارنة الدميم. فمنذ نعومة أظفارك، وفور ميلادك، يُزج بك في مقارنات ليس لك بها شأن، وليس لك فيها اختيار. فها هي أمك، وها هو أبوك يقارناك شبها بأحدهما، أو بغيرهما من العائلة. ثم تكبر ليبدأ مسلسل المقارنات، بالإخوة والأخوات. فهذا أكثر ذكاء منك، وهذه أكثر طاعة .. إلخ.

فتنشا الأحقاد، وتنبت الغيرة في قلب كل من اشترك في سباق المقارنة. ثم تتسع دوائر المقارنة شيئاً فشيئاً، فها هي مقارنات النجاح والتفوق الدراسي، ثم تأتي مقارنات العمل والترقي الوظيفي، التفوق المالي، وغيرها وغيرها وغيرها، من مقارنات مضنية.

إن السيء في الأمر، أنه مع مرور الوقت، وتكرار مواقف المقارنة، فإنك تدمن الدخول في تلك السباقات. فإن لم يدخلك أحدهم فيها، فإنك وبشكل تلقائي، تدفع بنفسك إليها، وتنخرط في دوائرها اللعينة. فقد أصبحت هذه هي الطريقة المعتادة والشائعة، التي يعتنقها التفكير الفردي والجمعي على حد سواء، فيقيم بها الفرد والمجتمع مدى تقدم الشخص ونجاحه وتميزه، لتصبح المقارنات، هي الميزان الذي نحدد من خلاله الناجحون والمميزون، ونفرقهم عن غيرهم ممن هم أقل نجاحاً وتميزاً.

وتلك النظرة في تقييم النجاح الشخصي، في منتهى القصور والضعف. لأن المقارنة تعقد بينك وبين آخرين، مختلفين عنك في الصفات والأفكار، والميول والاهتمامات والظروف إلخ. والخطأ الذي يقع فيه المجتمع عندما يستخدم مبدأ المقارنات بين أفراده، أنه يستخدمها بشكل عام، وأنه يهمل مبدأ هام في علم النفس، وهو مبدأ وجود فروق فردية بين البشر، وأن البشر مختلفون في الشخصيات والظروف. وأن المقارنة بين الأفراد كي تتم بشكل موضوعي، يجب أن تكون بين أفراد بينهم تجانس في صفات أو أشياء معينة، من أجل تحديد وترتيب مستوياتهم، في قدرة أو صفة أو شيئ بعينه، وليس في جميع الصفات والقدرات والأشياء والأفعال عموماً، وذلك مع ملاحظة أن الجميع ناجح، فيما يتم مقارنتهم فيه.

وأن الفروق في الدرجة وليس في النوع. فلا يمكن أن نقارن مثلا، نجاح عالم ذرة بنجاح لاعب كرة. فكلاهما مختلفان تمام الاختلاف. وكلاهما ناجح في مجاله. ولكن مع الأسف يميل مجتمعنا إلى فكرة التعميم، وإنتاج نسخ متشابهة من البشر.

يا صديقي إن معيار النجاح الحقيقي الذي تبحث عنه، ليس هو تفوقك على الآخرين، ولكنه تفوقك على ذاتك، ذاتك وفقط ذاتك. فإن أحببت أن تمارس فكرة المقارنة، التي اعتدت عليها، فلتعقد تلك القارنة مع نفسك. وإن فضلت دخول سباق المقارنات، ففي هذه المرة ستجد خطأ للنهاية. لأن مقارنات الذات، واضحة الطريق واضحة المعالم. لذا فقارن نفسك اليوم بما كنته في الأمس. وسل نفسك هل تطورت مسيرتك؟ هل حققت إنجازات جديدة؟ هل أصلحت عيبا في شخصيتك؟ أو هل غيرت أفكارك السلبية؟ .. إلخ

قارن نفسك في هذه اللحظة، بنفسك في نفس اللحظة، من العام السابق والأعوام المنصرمة. واكتب انجازاتك، ودون اخفاقاتك، واصلح أخطاءك ثم عدل مسارك. هكذا تكون المقارنة موضوعية إيجابية صحية. لأن المقارنة بالآخرين طالما تجلب أحاسيس سلبية، وتضر صحتك النفسية. كما أنها قد تفسد علاقاتك مع الآخرين، وتزرع بينكم مشاعر الحسد، والغيرة والإحباط. وقد تخسر من تحبهم، بسبب تلك المقارنات غير المجدية.

أما الآن فلطفا عليك أن تبدأ. فهيا احضر قلماً وأوراقاً، وابدأ في تدوين ما حققته من إنجازات، ونجاحات خلال العام أو الأعوام الفائتة. وعليك أيضا أن تنقل هذه الفكرة، إلى أسرتك وأصدقائك وأبنائك. واعلم أنك مميز، وإنها لإهانة كبرى، توجهها إلى ذاتك، حينما تقارنها بالآخرين.
—————
* مدرس أدب وثقافة الطفل بكلية بنات جامعة عين شمس

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: فجوة بين الشباب ورجال الدين

عدد المشاهدات = 3710 منذ فترة طويلة وانا اشعر بوجود فجوة عميقة فى العلاقة بين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.