الجمعة , 19 أبريل 2024

د.علا المفتي تكتب: إنها حية..!

= 1156

حتما ستقابلها يوما ما. ستظهر ثم تختفي، لتعاود الظهور من جديد. تيقن من أنها ستزورك، لكن لا أعرف حقا عدد مرات الزيارة. ولا أعرف أيضا، هل ستزورك بانتظام، أم ستفاجئك بين الحين والحين؟! إنها لا تتبع قاعدة ثابتة في الزيارة، لكن مبدأها الوحيد في المجيء، قائم على دعوتك أنت لها. وذلك لأنها حقا مهذبة، لا تأتي بدون استدعاء. ولأنها أيضا مطيعة، فهي تلبي النداء فور حدوثه، فإنها كعفريت المصباح السحري.

أما عن مكان اللقاء، فهذا أيضا يتوقف علي اختيارك. فكما أخبرتك، هي مهذبة مطيعة، تترك لك جميع الخيارات، لكي تحددها أنت كما تشاء. وقد تقابلها في اليقظة أو المنام. جالسا أو مستلقيا، أو في أي وضع تشاء أنت. قد تراها محفورة بين سطور كتاب، أو غارقة في تفاصيل صورة قديمة. قد تقابلها في وجه أحدهم، أو تشاهدها في صفحة السماء.

أيا كان شكل أو موعد اللقاء، فإنك ستقابلها. أؤكد لك ذلك. ستقابلها فعلا، والسيء في الأمر، أن لقاءها دوما حزين. إنها تأتى دوما متسللة، متشحة بالسواد. إنها قاسية، تقابلك لتعذبك، وتمنحك الألم من جديد. فهي توقظ ما كان كامنا منه. هل عرفتها الآن؟!

إنها ذكرياتك المدفونة، وتجاربك المريرة، وجروحك المتقيحة، ومشاكلك التي تنتظر حلا، وآلامك المبرحة، التي دفنتها حية. لذا فإن شبحها سيطاردك باستمرار. والغريب في الأمر، أنك أنت من تستدعيها من آن لآخر، دونما أن تعي هذا. وذلك لأنك لم تحسن قتلها، قبل أن تدفنها.

إن ذكرياتنا السيئة، من فشل وفقد ومرض وفقر إلخ ، عندما لا نواجها بشكل سليم، بل نتناساها ونهرب من وطأة آلمها، فإنها تنتقل من مخازن العقل الواعي، إلى قبور اللاوعي. لكنها سرعان ما تعاود القفز مجددا إلى الوعي، إذا ظهر متغير ما يذكرنا بها، لنبدأ في المعاناة من جديد، حيث نستدعي الذكرى بكل تفاصيلها المؤلمة، وكأنها تحدث من جديد. فما الحل إذن هل نتركها تعبث بنا هكذا، وتتلذذ في تعذيبنا من آن لآخر؟!

الحل في المواجهة. والمواجهة تتطلب الشجاعة. الشجاعة في مصارحة الذات والآخر. فمصادر الألم باختلافها يمكن مواجهتها. فإذا كانت ذكريات مؤلمة، عليك أن تفحصها وتتعلم منها، وتحولها إلى درس مفيد، تأخذ منه العبرة لأيامك الحاضرة والمستقبلة. أما تجارب إخفاقاتك وفشلك، فيجب أن تفهم، أنها خطوة من خطوات التعلم، التي ستقودك إلى اجتياز درجة من درجات سلم النجاح. ومشاكلك المفتوحة، لا تهرب منها، ولا ترمي بمسئولية حلها على الزمن، فلكل مشكلة حل، ولكل بداية نهاية، فحاول ولا تيأس. أما جروح نفسك المتقيحة، فيجب عليك أن تتحمل ألم فتحها، من أجل تطهيرها، ثم تضميدها كي تلتئم في سلام.

إن تحقيق السلام النفسي، قائم على قتل كل ما هو يؤرقنا، وعلى اليقين في قدرة الله، على مساعدتنا في اجتياز الآلام والمصاعب. ولكي يتحقق السلام النفسي، يجب أن نطهر أنفسنا، من تلك الذكريات والآلام العالقة، التي دفنت حية. لكن كيف نحقق ذلك؟!

سأروي لك قصة لطفلة، واجهت ألم نفسي شديد، أوصلها إلى مرحلة الصدمة، التي أفقدتها النطق، من هول ما حدث لها. كانت تلك الطفلة قد تعرضت لحادث مروع، حيث رأت جميع أفراد أسرتها، يقتلون بوحشية أمام عينيها. فتخطت مرحلة الصراخ، إلى مرحلة الخرس. لم تستطع هذه الطفلة أن تتخطى أزمتها، وعملت على دفن ذكرى هذه الحادثة حية. لم تستطع التعبير، أو مواجهة ألمها، فهربت ولاذت إلى ملجأ الصمت. لكنها وجدت من يرشدها إلى طريق الخلاص والنجاة، حيث أودعت إحدى المصحات النفسي،ة وبادر الأطباء برعايتها ومساعدتها على تخطى تلك الأزمة. وكانت البداية عن طريق مساعدتها على إخراج مشاعر الألم، والتعبير عن كل ما يؤرقها. فوضع لها الاطباء مجموعة من الألعاب، والاوراق البيضاء، والألوان في حجرتها، لتبدأ الطفلة في الرسم والشخبطة. عبرت الصغيرة عن كل ما عجزت عن قوله، من مشاعر ومخاوف، وأفكار وذكريات، في خطوط بسيطة أسقطتها على الأوراق. وشيئا فشيئا مع خطوات العلاج، بدأت في استعادة قدرتها على النطق والكلام.

كلنا مثل تلك الطفلة، في احتياجنا إلى تطهير ما دفناه حيا، من آلام ومخاوف، وأفكار سلبية وذكريات سيئة. نحتاج مواجهة أنفسنا بما يؤرقنا. وأن نلقي بتلك المؤرقات خارجنا. وطرق التطهير كثيرة، فالفضفضة مع صديق حكيم، أو طبيب أو اخصائي نفسي، يعتبر تطهير انفعالي. كذلك كتابة الأفكار والمذكرات، والخواطر والأشعار وخلافه، تعد تطهيرا انفعاليا أيضا. كما أن الرسم، من أكثر الطرق نجاحا في التعبير، وإخراج مكنونات النفوس المؤرقة.

ويصلح مع صغار الأطفال بالذات، لعدم تمكنهم من التعبير اللغوي، والكلامي بشكل جيد. ولا أقصد بالرسم تكوين أشكالا جمالية، تخضع للقواعد الفنية، وتحتاج إلى الموهبة، ولكن ما أعنيه هو مجرد التعبير بخطوط بسيطة، أو حتى الشخبطة ذات المدلول النفسي. وعموما فإن طرق التطهير الانفعالي كثيرة، ويمكن معرفتها باللجوء إلى المختصين.

والآن هيا بنا يا صديقي لنهزم شبح الذكرى. وننقي عقولنا اللاواعية من ضلالاتها، ونخرجها للوعي، كي نقف في مواجهتها، تمهيدا لوأدها، ونحسن دفنها في قبور أورقنا القديمة، وأحاديث الفضفضة. فقد مللنا لقاءها المباغت المؤرق. هيا يا صديقي احك لي، واخرج همومك على أعتابي فإني استمع لك ….!

* مدرس أدب وثقافة الطفل بكلية بنات – جامعة عين شمس

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: صلاة الرجال مع النساء.. باطلة!

عدد المشاهدات = 3480 نشر فضيلة الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب على صفحته الرسمية على …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.