الثلاثاء , 19 مارس 2024

د.علا المفتي تكتب: قصة الوهم..!

= 1784

جلس في استسلام بعد أن اقتادوه مكبلا في أغلاله، تمهيدا لتنفيذ الحكم بإعدامه. كان ثابتا، فقد أيقن أنه لا أمل في النجاة. وفجأة اقتحمت سكينته صوت تلك الخطوات، التي جاءت تضرب الأرض في قوة، معلنة لحظة الرحيل. لم يضطرب أو يطلب العفو، أو يستعطفهم للبقاء. فما كان منهم، إلا أن وخذوه عدة وخذات في ذراعه. وثبتوا بها خراطيم طويله، متصلة بعدة آنيه، تمهيدا لقتله بتصفية الدماء من جسده، قطرة تلو قطرة.

في تلك اللحظة انهارت قلعة مقاومته تماما، وفتح أبواب عقله مرحبا، بزيارة شبح الموت الغامض، القادم بهدوء ورتابة، مع صرخات كل قطرة ساخنة، تقطر من دمائه، وهي تسقط في هوة ذلك الإناء البارد، الفارغ طالبة النجاة. وبدأت غلالة الحياة الوردية، تسحب رويدا رويدا، لتكشف عن وجه الموت الشاحب الباهت. وظل الإناء يمتلئ تدريجيا، بسائل الحياة اﻷحمر، بينما أصبح جسده، وعاء خاويا للموت.

مات الرجل، لكنه أراد أن يترك أثرا طيبا، في تاريخه بعد الرحيل، يمحو ما ارتكبه من جرائم. لذا وافق أن يكون ضمن تجربة علمية، يقوم بها أحد الأطباء.وكان مغزى هذه التجربة العلمية، هو محاولة اكتشاف مدى تأثير الإيحاء على الإنسان.

ففي تلك التجربة، تم إيهام ذلك السجين أن حكم الإعدام سينفذ فيه، بتصفية دمه قطرة قطرة، ويتم جمعه في مجموعة من الأواني. حيث قام الطبيب بعمل خدعة، فبعدما ثبت الخراطيم، التي كان يوهم السجين، أنها ستحمل دماءه إلى الآنية الموضوعة خلفه، بحيث لا يمكن له رؤيتها وهي تمتلئ، وضع فيها مياه لها نفس درجة حرارة الدماء، الموجودة في جسد السجين، ليوهم السجين بأن ما يمر في تلك الخراطيم، التي لا يراها، هي دماؤه بالفعل.

ومن ثم اقتنع السجين تماما، أنه يتم تصفيه دماءه حتى الموت. فاستجاب جسده لما صدقه عقله. وبدأ وجهه في الشحوب ، وضعف نبضه بالتدريج، إلى أن مات بالفعل. مات ضحية فكرة، آمن بها وأعتنقها حد اليقين.

أرجوك .. لحظة من فضلك .. لا تكمل القراءة، لكن عد بعينيك إلي آخر جملة قرأتها، وتمعن فيها جيدا “مات ضحية فكرة، آمن بها واعتنقها حد اليقين”.

ما رأيك؟! هل فهمت ما أعنيه؟! هل تعي مدى خطورة أن تقتلك فكرة؟! أن تهزمك فكرة؟! أن تتعسك فكرة؟! إنه سحر الإيحاء يا صديقي. فنحن عبيد لأفكارنا. نطيعها طاعة عمياء.

إن الإيحاء سلاح قوي، يمكن أن تستخدمه لإيذاء ذاتك أو نفعها. كما يمكن أن يستخدمه معك الأخرون بنفس الطريقة، فيهدموك أو يبنوك، بفكرة يزرعونها بقوة داخلك، حتى تصدقها حد اليقين وتتصرف بناء عليها. وقد تتغير حياتك كلها بناء على تلك الفكرة، أو الأفكار التي أوحيت بها لنفسك، أو أوحى لك بها الآخرون.

إن عقولنا يا صديقي ما هي إلا سلة من التفاح، إذا فسدت إحداها ولم نتخلص منها، ستصيب باقي حبات التفاح بالعطب، وسيصبح عقلك مرتعا خصبا للفساد الفكري. فإن الأفكار السلبية معدية. وإن تركتها ترعى في عقلك وتنمو وتتكاثر، فستدخل في سلسلة لا نهائية من السلبيات، التي قد تؤدي بك إلى المرض النفسي، وقد يصل الأمر للانتحار والعياذ بالله.

وبالمثل فالأفكار الإيجابية معدية أيضا، ومعها تزهر لك الحياة، وتنير لك الطريق، ببريق الأمل والإيمان بالله. حيث يقول ابن سينا: “الوهم نصف الداء، والاطمئنان نصف الدواء، والصبر أولى خطوات الشفاء”.

لذا فلنجلس مع أنفسنا من حين لآخر، لننقد أفكارنا الراسخة في عقولنا، نقدا موضوعيا، ونفحص حبات التفاح الفاسدة فيها، ونلقي بها دون رجعة. ونستبدلها بأخرى يانعة طازجة.

صديقي..لا تكن مؤلفا لقصة وهمك. ولا تسمح لأحد أن يؤلف لك، قصة وهم تعيش أسيرا لها. وأجعل سلة التفاح خاصتك، دائما ناضجة طازجة يانعة.

—————-

* مدرس أدب وثقافة الطفل بكلية البنات – جامعة عين شمس.

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: جهاز تنظيم الاتصالات خارج الخدمة

عدد المشاهدات = 6224 يهل علينا شهر رمضان المبارك بأيامه ولياليه.. وبركاته.. وكل سنة واحنا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.