الجمعة , 19 أبريل 2024
جريمة قتل الباحث الطبي تشكل لغزا جديدا حول حقيقة كورونا

الآن سأطلق رصاصة !

= 3058

—–

بقلم: يعقوب الريامي

في الحافلة التي تقلنا إلى المواقع السياحية في دولة البوسنة والهرسك أعلمنا المرشد أن طريقنا سيستغرق أكثر من ساعتين للوصول إلى الموقع القادم.

هذا الوقت الطويل أستثار قلقي من أن يطعننا الضجر بمخلبه، فدفعني إلى عصف ذهني لعلي أجد ما أزجي تلك الساعات فيما تنفع إلى أن تفتق عقلي إلى فكرة سرعان ما طرحتها قبل أن تذروها رياح التسويف والنسيان.

دعوت زملاء الرحلة عن طريق مبكر الصوت إلى تنظيم برنامج ترفيهي يقوم على فتح باب المشاركات سواء إلقاء الشعر ، أنشاد ، قصة هادفة ، موهبة أو مسابقة ….

لاقت فكرتي ترحيبا لائقا من الجميع ، عندها قام أحدهم بترجمة كلامي إلى المرشد البوسني المسلم الذي يتواصل معنا باللغة الإنجليزية .

أبدي المرشد البوسني أعجابا بفكرة البرنامج حتى أنه طلب أن يكون أول المشاركين بسرد قصة حقيقة كان شاهدا على تفاصيلها .

الحق أن وقفة المرشد البوسني أمامنا بطوله الفارع وبنيته الجسدية الهائلة سحبت حواسنا اتجاهه فجعلتنا في حالة أنتباه وترقب لما سيحدثنا عنه .

ظل صامتا ينقب في تجاويف ذاكرته عن خيوط الماضي لينسج منها ثوب حكاية شيقة . قطع صمته بأن رفع حاجبيه عاليا وقال:

الصرب حين أعمتهم النعرة القومية خرجوا من جحورهم كالضباع الجائعة متجهين نحو البوسنة تحت مخطط بضم 67 % من أراضيها إلى صربيا الكبرى التي نصبت نفسها الوريث الشرعي للاتحاد اليوغسلافي الذي أنفك عقده على أثر سقوط الأتحاد السوفيتي عام 1991م ذي المنظومة الشوعية المشتركة بينهما.

تحرك الجنود الصرب بأمر من رئيسهم سلوبودان ميلوسفيتش إلى البوسنة ذات الأغلبية المسلمة في حرب دموية أمتدت من 1992 إلى 1995م انتهت بإتفاق دايتون لوقف الحرب تحت رعاية امريكية و قوات حفظ السلام الدولية.

كنت صغيرا وقت بدء الحرب المشؤومة ، أتذكر حين هجمت القوات الصربية قريتنا فحاصرتها ثم أجبرت جميع الأهالي الخروج من منازلهم وتجميعهم في مكان فسيح ، بعدها أمرت بعزل الرجال لوحدهم عن النساء والأطفال.

هنا تعالى عويل النساء بعد فراق الأزواج ، وارتفع بكاء الأطفال الذي أحدث جلبة جعلتنا نعيش ظلمات بعضها فوق بعض ، كنا نتوجس خيفة مما سيقرره الصرب الأجلاف في حقنا ، هل سنتعرض لإعدام جماعي مثل المجازر التي حدثت لمن سبقونا أم يتركونا في العراء تفتك بنا مخمصة لا ترحم.

في هذا الوقت العصيب ظهر مقاتل صربي ملثم الوجه لا يظهر منه سوى عينيه ، والقصد من ذلك إخفاء هويته لأن الكثير من الصرب الذين شاركوا في الحرب ضدنا هم في الأصل من سكان البوسنة ممن كانوا يعيشون معنا ، حتى أني تأكدت لاحقا أن معلمي الصربي في المدرسة أنقلب علينا ورفع السلاح في نحورنا حين بدأت الحرب ، لقد عرفته من نبرة صوته بالرغم من القناع الذي يستره .

المقاتل الصربي الملثم صعقنا بنظراته الحارقة التي أرسلها نحو مجموعة الرجال ، بعدها أشار بيده إلى أبي أن يأتي إليه ثم أومأ إلى زملائه الجنود أنه سيتولى التخلص منه ، أي أن أبي ذهب ليلقى حتفه على يد الصربي .

أعترت أبي رجفة الموت ، فانقاد كالحمل الوديع إلى مصيره المحتوم.

أخذ الصربي أبي إلى خلف صخرة كبيرة أختفوا بها عن أعين الجميع ، وفيها سيقدم على إعدام أبي بطلقة واحدة من بندقيته .

حين تواجه الإثنان خلف الصخرة خلع المقاتل الصربي لثامه فانكشف وجهه تماما وظل ينظر إلى أبي بنظرات مبهمة ، كان أبي في هذه اللحظات يعد أنفاسه الأخيرة وتكاد تخنقه رائحة الموت التي بدأت تفوح حينها.

قال الصربي لأبي:
– هل تعرفني ?! .
أجاب أبي بعد أن تفحص ملامحه مليا:
– يبدو أنني لا أعرفك .. من أنت?
– رد الصربي بصوت خفيض:
أنت رجل صالح وكريم ، تعطي الناس بلا مقابل ، تتصدق بسخاء ، يدك مبسوطة دائما . أنا أعمل في محطة وقود السيارات ، عندما تأتي إلى المحطة كنت دائما تعطيني وغيري شيئا من مالك حبا للخير ، كنت في كل مرة تضع في يدي بعض النقود ، كنت تدفع لي من المال الذي تحسبه قليلا لكن بالنسبة لي هو الشيء الكثير لأني في أمس الحاجة إليه ، لا بد أن أكافئك اليوم ، سأنقذ روحك ، سأمنحك حياة جديدة جزاء معروفك ، الآن سأطلق رصاصة في الهواء ليظن زملائي أني قتلتك ، بعدها تجري مسرعا إلى تلك السيارة الواقفة على جانب الشارع – أشار إليها بأصبعه – ثم تجلس فيها إلى أن أحضر إليك زوجتك وأطفالك ! .

تجمدت ملامح أبي ما بين مصدق لكلامه وبين مكيدة يحملها صربي حقود.

أوفى الصربي بوعده ، فقد دوى صوت رصاصة طائشة نحو السماء ، بعدها انطلق أبي يعدو نحو السيارة يحمل روحه بين كفيه ناجيا من موت كان يتربص به.

بعد فترة قصيرة توجهت أنا وأمي وأخوتي بتدبير المقاتل الصربي إلى أبي الذي ينتظرنا في ذات السيارة التي حملتنا إلى قرية آمنة.

والحمد لله أن جنبنا المكروه.

بعد عدة شهور اضطررنا للبقاء في مخيمات اللاجئين ، فقد أمست المدن البوسنية ساحة حرب لا تصلح للإقامة فيها.

فتح لي القدر بابه الحسن بأن اختارتني منظمة دولية تهتم بشؤون اللاجئين بإرسالي إلى تركيا لمواصلة دراستي النظامية ثم الجامعية . رجعت إلى البوسنة بعد تسعة سنوات وأنا أحمل شهادة هندسة زراعية ، أما أبي وأمي وأخوتي فقد نزحوا إلى ألمانيا ثم عادوا بعد أن ألقت الحرب أوزارها ، فاجتمع شملنا بعد فراق طويل .

والحمدلله أولا وآخرا .

? ? ?

إلى هنا انتهت حكاية المرشد البوسني ، الذي زادني يقينا أن الصدقة – الإنفاق في وجوه الخير – والتبرع بالمال لمساعدة المحتاجين أو دعم الأعمال الخيرية في المجتمع ، كلها أعمال لها أجر عظيم يدخره الله لك على أشكال متعددة سواء :

(حسنات تكتب في صحائف أعمالك – بركة في مالك – يرد عنك مصيبة ، يجلب لك خير – توفيق في طموحاتك – سعادة تلامس شغاف قلبك).

لا شك أن الحكمة القائلة: “صنائع المعروف تقي مصارع السوء” تلخص كل شيء.

? إذن تصدقوا .. أنفقوا .. تبرعوا .. أعطوا ، ولا تستحوا ..من إعطى القليل فالحرمان أقل منه.

شاهد أيضاً

المفتي: دار الإفتاء تستقبل 5000 فتوى طلاق شهريا يقع منها واحد في الألف

عدد المشاهدات = 6383 أعلن الدكتور شوقي علام، مفتي الجمهورية، أنه يأتي إلى دار الإفتاء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.