الخميس , 28 مارس 2024
الشاعر والكاتب عبدالرزاق الربيعي

عبدالرزّاق الربيعي يكتب: “عايدة” تتجلّى في “مسقط”!

= 1568

 

في مارس 2002 م بالدوحة كان لقائي الأوّل بأوبرا (عايدة) التي عُرضت في مهرجان الدوحة الثقافي الأول، ولم تكن تلك المرّة الأولى التي أشاهد بها العرض فقط، بل الأولى التي أحضر بها عرضا أوبراليا، في حياتي، بعد أن كنت أشاهد مقاطع منها في التلفزيون، وكانت دهشتي لا توصف، خصوصا أنّ العرض جسّده أكثر من 250 مشاركا، ينتمون إلى جنسيّات مختلفة، وقُدّم على ملعب رياضي كبير، ولم أنس تلك الليلة التي بها جلس على يميني صديقي الشاعر عدنان الصائغ، وعلى يساري النحّات أحمد البحراي، وعلى بعد أمتار قليلة كانت سخونة الصراعات الدائرة في عرض (عايدة) تخفّف برودة مباغتة داهمتنا في مكان مفتوح، مصحوبة برشّة مطر، ورغم جدّة تجربة مشاهد عرض كامل لفن غربي لم نعتد عليه، ولا توجد ترجمة مصاحبة لعرض قدّم باللغة الإيطاليّة..

ظلّ تواصلي مستمرّا بيني وبين ما يجري على الخشبة ، فقد كان العرض مبهرا ، وكنت أشعر أن (عايدة) هي ابنة الشرق، ربّما لأنّ أحداثها تدور في مصر القديمة، حين كانت في حالة حرب مع إثيوبيا، ووضعت خصّيصا لتقدّم بمناسبة افتتاح دار الأوبرا المصريّة بناء على طلب الخديوي إسماعيل، فراعى( فيردي) عند وضع موسيقاها ذائقة الجمهور الشرقي، لكنّ هذا لم يحصل لظروف خارجة عن إرادة المنتجين، فتأجّل عرضها عامين، فقدّمت، للمرّة الأولى عام1871م .

واليوم أتاحت لي دار الأوبرا السلطانيّة فرصة جديدة لمشاهدته، في افتتاح موسمها (موسم الفنون الرفيعة)، ومنذ المشاهد الأوّلى للعرض الذي قدّمته فرقة الأوبرا الإيطالية لمسرح “تياترو ريجيو” في تورينو، وجدنا أنفسنا إزاء سلسلة من الصراعات التي تتّصل بالحب، والولاء للوطن، وتتمركز حول صراعين: خارجي يتمثّل بقرب وصول ملك الحبشة (أموناسرو) على رأس جيش جرّار إلى مصر الفرعونيّة لاطلاق سراح ابنته (عايدة) وريثة عرشه بعد أسرها بمصر، والثاني: داخلي يتمثّل بوقوعها بغرام القائد العسكري المصري (راداميس)، الذي تحبّه ابنة فرعون الأميرة( أمنيريس)، دون أن يبادلها المشاعر، ويتفرّع عن هذا الشق من الصراع صراعان ثانويان: صراعها مع ذاتها بسبب حبها للقائد “راداميس”، وولائها لوالدها، وشعبها، والثاني مع الأميرة (أمنيريس) على حب ( راداميس)، الذي وضعته الأقدار في أزمة، فهو حائر بين حبه لـ(عايدة)، وولائه لسيده (فرعون)، وبلده، وكأننا أمام تراجيديا شكسبيريّة، حبلى بالكثير من الأسئلة، والأحداث التي تنتهي نهاية مأساويّة عندما تقضي المحكمة بدفن (راداميس) حيّا بتهمة الخيانة العظمى للوطن، وداخل المكان المظلم الذي وضع به تتسلّل (عايدة) مفضّلة الموت معه على الحياة من دونه..

ويخيّم الظلام شيئا، فشيئا على القسم الأسفل من المسرح، فيما تجلس (أمنيريس) التي وصفت الكهنة الذين حكموا على حبيبها، وزوجها( راداميس) بـ” سفراء الموت” في القسم العلوي ، لتصلّي على روح حبيبها، حالمة بعالم يسوده السلام، وقد ظهرت هيمنة السلطة الدينيّة بشكل واضح على القرار السياسي منذ المشهد الأوّل الذي يبلغ به الكاهن الأعظم (راداميس) إن الجيش الأثيوبي يزحف نحو الأراضي المصرية، وإنّ الآلهة (إيزيس) اختارته قائدا للجيش، وتظلّ الكلمة الأولى طوال العرض بيد هذه السلطة التي تتقاطع أحيانا مع رغبة الشعب، كما رأينا في المشهد الثاني من الفصل الثاني، في عرض تالّف من أربعة فصول، عندما طلب( راداميس) من فرعون العفو عن الأسرى، فيعارض كبير الكهنة رغبته، ويطلب من فرعون إعدامهم، وفي النهاية يختار حلّا وسطا، فيلبّي طلب القائد المنتصر( راداميس) على أن تبقى(عايدة)، ووالدها الملك رهينتين في مصر خشية تكرار الزحف من جديد.

وقد طعّم المخرج وليام فريدكين العرض بالعديد من الرقصات التي تقدّم في المعابد المصريّة، وطقوس العبادة في مصر الفرعونيّة لينقلنا إلى تلك الأجواء، ويضعنا في قلب الأحداث، وجاءت الموسيقى التي وضعها (جوزيبي فيردي) منسابة بشكل هادىء، معبّرة عن روحانيّة الشرق، وأجوائه الحالمة التي عبّرت عنها الديكورات المستلهمة من الآثار الفرعونيّة.

ولابدّ من الثناء على الفرصة التي قدّمتها الدار لـ 46 عمانيا من محبي المسرح بأداء أدوار ثانوية ( كومبارس)، لإشراك الكوادر العمانية في عروض الدار، واكسابهم تجارب تنمي قدراتهم التمثيلية، والفنية، بعد الإعلان عن ذلك قبل حوالي ثلاثة شهور من موعد تقديمه، وإدخالهم في دورة تدريبيّة بإشراف متخصصين، وهذا التوجّه سيشمل العروض المقبلة في بادرة طيّبة تحسب للدار بعد مشاركتهم في عرض سيظل نضرا، وطازجا، رغم مرور أكثر من 150 سنة على عرضه الأول في دار الأوبرا المصرية، و15 سنة من المصافحة الأولى لأنظاري في (الدوحة) هذا الفن المبهر.

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: سندوتش المدرسة.. صدقة وزكاة

عدد المشاهدات = 6380 لا ينكر إلا جاحد ان الشعب المصرى شعب أصيل، شعب جدع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.