الثلاثاء , 16 أبريل 2024

عبدالرزّاق الربيعي يكتب: حمّى برشلونة!

= 1275

خلافا لتوقعاتي في زيارتي الأخيرة لبغداد، لاحظت أن الذي يشغل الناس في جلساتهم الخاصة والعامة، ليس معركة الموصل، ولا الخروقات الأمنية التي تشهدها العاصمة بين حين وآخر، ولا الأحاديث السياسية كون البلد مقبلا على انتخابات نيابية، ولا التحديات الاقتصادية بعد تدهور أسعار النفط في الأسواق العالمية ، واستنزاف محاربة الإرهاب لميزانية الدولة، ليس هذا ولا ذاك، بل وجدت معظم أحاديثهم تتركز في سجالات بين مشجعي فريقي ناديي ريال مدريد وبرشلونة لكرة القدم ، وقد ترتفع الأصوات قبل أن تبح، إلى عنان السماء ، وتتحول النقاشات إلى سباب وشائم، ووصل الأمر أن مشجعا قتل صديقه الذي يشجع فريق النادي المنافس بعد أن هاجم فريقه المفضل فاعتبر ذلك الهجوم إهانة شخصية انتهت بجريمة أعادت إلى الأذهان الجريمة الأولى : جريمة قتل قابيل لهابيل !

ولم تقتصر اعراض هذه الحمى على أحاديث المجالس، بل تجاوز إلى ارتداء ملابس الفريقين، ووصل الأمر بقريب لي جعل شعار برشلونة وسادته التي يريح عليها جسده حين يأوي إلى فراشه بعد أن يطمئن على ترتيب فريقه المفضل في الدوري الإسباني !

وقد يدافع المشجعون، وفيهم أكاديميون ومثقفون، عن متابعتهم لمباريات تلك الفرق كونها تنطوي على قدر كبير من المتعة، الممهورة بتوتر الأعصاب، والصراخ، ولكن مايفسد تلك المتعة النزاعات التي تعقب كل مباراة، والنقاشات التي لا تنتهي بصافرة الحكم حين ينفخ بها معلنا النتيجة النهائية مع أن لاعبي الفريقين ، أيا كانت النتيجة، يصافحون بعضهم البعض ، ويهنىء الخاسر الفائز!

والبعض لايتوقف عند فوز فريقه المفضل، بل يسعى الى الاستمتاع بخسارة الفريق المنافس في مباريات مع فرق أخرى، وهي منافسات بين فريقين في اسبانيا لها جذور ، لا ناقة لنا فيها ولا جمل، بل أن لاعبا ك”لويس فيجو” ارتدي قميص ريال مدريد بعد أن كان لاعبا محبوبا في فريق برشلونه، فباء بغضب مشجعي برشلونة بل عدوه خائنا!!

وقد أعادت الحمى الجديدة إلى ذهني هوسا اجتاحنا مطلع السبعينيات في العراق تمثل بنزالات المصارعة الحرة غير المقيدة عند بزوغ نجم مصارع عراقي اسمه عدنان القيسي قدم من الولايات المتحدة الأمريكية ولحقه منافسون له على لقب عالمي يحمله بهذه الرياضة ، وفي ساعة النزال كان يتوقف كل شىء في الشارع العراقي ويجلس الجميع قبالة التلفزيونات التي كانت باللونين الأبيض والأسود مترقبين سقوط المنافس بالضربة القاضية وارتداء القيسي للحزام الذهبي، وتعم الأفراح ، ويفي كل ناذر بنذره، وتستمر النقاشات وكأن لا أحد يريد أن يغادر حلبة النزال التي كانت مساحتها تتسع لتشمل خارطة البلد كله!

وسرعان مااكتشف الجميع أنهم ضحايا خدعة متفق عليها ، يقف خلفها مستثمرون ، وتجار، ومؤسسات مستفيدة، ومايجري على الحلبة ليس سوى استعراض نتيجته محسومة سلفا، وقد شاهدت قبل سنوات حوارا تلفزيونيا بثته قناة “الحرة” مع القيسي الذي عاد إلى أمريكا بعد انكشاف أمره، وحين واجهه المحاور ، بتلك الحقيقة، قال”اعتبروني ممثلا في فيلم من انتاج هوليوود يقدم عرضا ممتعا “!

واليوم تأتي منافسات الريال وبرشلونة لـ”تملأ الدنيا وتشغل الناس” علما بأن هذه المنافسات بدأت بصراع بين القومية الاسبانية ممثلة بفريق العاصمة ريال مدريد، والكتالونية ممثلة بفريق المقاطعة برشلونة، وتعود جذورها الى ثلاثينيات القرن الماضي حين تولى فرانكو حكم اسبانيا معلنا الحرب على مدينة برشلونة، و اقليم كاتالونيا، لأن المعارضين لحكمه يخرجون من هذا الإقليم، ومن أبرز ضحايا هذا الصراع كان الشاعر لوركا أشهر شعراء هذا الاقليم، وفي المقابل منح الملك الفونسو الثالث عشر نادي ريال مدريد وسام الملكية في عام 1929 م وحين تولى فرانكو الحكم اولى هذا النادي اهتماما خاصا بصفته النادي الملكي، وكما يقول المتابعون “تحول لقاء برشلونة و ريال مدريد الى معركة واكتسب الفوز على ريال مدريد معنى مختلفا، وهو الانتصار على نظام فرانكو وتحول الى عيد يحتفل به سكان برشلونة”.

ويوما بعد آخر خرجت هذه ” الحمى” من حدود إسبانيا حتى وصلت إلى مناطق عديدة من العالم، وازداد عدد متابعي (الكلاسيكو) (وهي كلمة تطلق على المباريات التي تجمع فريقين عريقين يتنافسان فيما بينهما منذ زمن طويل )، وتقول أحدث الإحصائيات أن عدد متابعي مباريات ريال مدريد وبرشلونة ارتفع عام 2017 إلى 650مليون متابع !

ومما زاد اليوم من انتشار هذه “الحمى ” حب الجماهير العريضة لكرة القدم، من دون بقية الرياضات ، لدرجة أن يخاطر البعض بحياته كما جرى في بغداد عام 2007 خلال بطولة كأس أمم آسيا التي فاز بها العراق إذ انفجرت سيارتان على المحتفلين قبل المباراة النهائية، وكانت الشوارع تدخل حالة انذار حقيقي فتنتشر قوات الأمن في الشوارع في أثناء المباريات خوفا من استغلال خلو الطرق من المارة للقيام بعمليات إرهابية، ومع ذلك استمرت الاحتفالات بعد الفوز بالكأس، حينها كان الصراع الطائفي في أوج احتدامه!

إن اختيار المرء لما يحبه يأتي بناء على حاجات قد تكون لاشعورية، أو اثباتا لذاته، ويرى المحللون أن متابعي المنافسات الرياضية يجدون فيها تفريغا نفسيا لشحنات داخلية ، فيجدون مساحة جمال وسط احباط عام، فتنقلهم الى عالم آخر كنوع من الهروب من الواقع، وفيها إثارة، إلى جانب ضعف الدوري المحلي، وسوء نتائج المنتخبات الوطنية، وهذاجعلهم يلجأون إلى مساحات خضراء بدلا من الساحات الصفراء الخاوية، وشيئا، فشيئا تحولت المتابعة إلى حمى يمكننا أن نطلق عليها “حمى برشلونة”.

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: صلاة الرجال مع النساء.. باطلة!

عدد المشاهدات = 896 نشر فضيلة الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب على صفحته الرسمية على …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.