الجمعة , 29 مارس 2024

كريم علي يكتب: فخامة العاري! (قصة قصيرة)

= 1780

فور وصوله بلد المؤتمر السنوي تلاشت تناقضات ليلته السابقة من ذهنه كأنها لم تأكل الليل كله. لا يتصور أحد المحيطين به أن ذاك المهيب الرصين قبل ساعات كان جمرً يشتعل ذلاً وضعفاً.

ربما يكتسب السياسيون الخلود من قدرتهم على الفصل بين مشاعرهم وردود أفعالهم، أمر أشبه بجسد مزقته الرماح دون أن تنفجر منه الدماء، فقط تطفح برائحة الثبات ومرسم الهيبة والشجن.

داخل قاعة باهرة جلس فوق كرسي وثير فخم يختبئ في العلن وراء مهابته. الرصانة غالباً تجلب الهيبة لا سيما إن كان الأمر متعلق بالسياسيين، الهيبة يلازمها رهبة التحديق إن لم يكن النظر عامة في عين صاحب الهيبة. تلك الهيبة التي سمحت له حرية التلصص الماجن في الجميلات من حوله، يُحملق في تفاصيلهن عن سطوة مغتصب شجي الطلّة يخفي دنائته خلف عطره الفرنسي الفواح ..

يتحلق حول كل سيد من السادة الحضور حُماته من الرجال الأشاوس يترأسهم كما جرت العادة رجل خفيض البنية خبيث كالذئب، يعد كلب سيده، وبالوعته المخلصة التي تلم دنسه وتُخفيه عن الأعين مقابل دوام القرب وثمين العطايا.

عجبت السيد المهيب إحدى النادلات الدائرات حول طاولات عِلية القوم لتقديم المشروبات قبيل المؤتمر المرتقب، يتلصص النظر خلف نظاراته السوداء، تكتنف الحماقة فيه مسكناً، يراقب خطواتها المائلة بدلال، قلَّبَ قوامها الممشوق عن تموجٍ برادار بصره الفاسق ..

مضى نحو النادلة يتوسط رجاله المكسويين بالعضلات، طافوا حوله، سدوا طريقها والتهمها ضباب أجسامهم، لا احد يراها في خضم الزحام ليُنجدها. بدت من بين أجساد الرجال المنتفخة يد باهظة الثمن بما ترتديه من زينة الدنيا، تتحرش بالفريسة، تلامس خصرها المنحوت ومؤخرتها المنقوشة، لامسهما بمجون سريع حتى يلحق بالمؤتمر الذي قارب على البدء. ترك الفريسة تئن صعقاً، كتمت الصرخة عن خرسٍ لحظي أصابها قبل أن يباغتها خادم المهيب بالتحفظ عليها حتى يستكمل سيده مجونه الشره بعد المؤتمر!

قطرات الماء تنساب على جسمه العاري وهو يشرع في تجفيفه، تتدلى من رقبته سلسلة فضة تذيلتها صورة ابنه الوحيد الذي تحتضنه إحدى كبريات المصحات النفسية في اوروبا .. خرج من الحمام عارياً إلا من ثوب داخلي ضيق يستر عورته. وقف بجسده الفارع أمام المرآة يصفف شعره المبتل القصير بينما ظهرَّ ظهر زوجته في المرآة تجلس شاخصة البصر نحو حديقة الفيلا الخضراء بعين الخلاء الموحش القابع بين ثنايا صدرها ..

لا أحد يعلم أن أنامله العامرة بالمجون، التي تصافح الساسة بثبات ورصانة واستعلاء، تنطلق كالطير تعزف فوق أصابع البيانو الثمانية وثمانين، تتجرد من كل خواتم القيود وتنقاض وراء استرخاء حسي لأجزاءه. يتنفس نسيم حريته بالعزف، فقط زوجته من تعرف سر البيانو، زوجته المتشحة بقليل الكلام دوماً، زهدت الكلام وهي قادرة عليه، تمنت الخرس حتى لا تعطي مسببات صمتها الصارخ لأحد..

يخفي سر عزفه البيانو حتى على عشيقاته وهن كثيرات، يخفي عليهن وجه الإنسان الطافح بالشجن، ليكونن تحت إمرة رجل السياسة المهيب. علمته السياسة أن وجه الإنسان متخم بثقوب الضعف سهلة الإختراق، مقتنع تماماً أن ما كُتب على شهريار الضعف الا بعدما أظهر وجه الإنسان لشهرزاد فتملكته ألف ليلة وما بعدها من عمر، ولكن الحياة لا تُعاند ولا يقوى على كسرها أحد، وحتما وُجد لكل شهريار شهرزاد تكشف النقاب عن سريرة نفسه وما عليه إلا الانجذاب والوقوع في جبها !

اتجه عارياً نحو البيانو وأخذ يعزف مشجوناً كأنه لم يعزف من قبل، زفرت دمعة منه، رمقته زوجته بنظرة هامدة بلا نبض، تعري فوق التعري، هو لا يحب التعري الا أمام شهرزاد المقهورة، نوع من أنواع الحماقة التي تتملك الرجل حين يُنسج اسمه بإسم امراة حمولة لا تجيد الصراخ والغضب، حماقة تتمثل في صبيانته التي يرميها فوق كاهلها مستنفزاً طاقة السماح والعفو النابضتين من الحب وقلة الحيلة حتى جفت المنابع وساد الصمت..

نهضت زوجته تلملم أشلاء قسوتها التي ذبحتها دموعه، انسحبت بهدوء نحو غرفتها تفض النزاع المشتعل بين الكبرياء والشفقة، وتركته يعزف عارياً حتى صباح يوم المؤتمر!

ولنا لقاء مادام لرزق الكلمة بقاء..

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: سندوتش المدرسة.. صدقة وزكاة

عدد المشاهدات = 6746 لا ينكر إلا جاحد ان الشعب المصرى شعب أصيل، شعب جدع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.